د. زايد الحارثي
مفهوم التكريم وتطبيقه بدأ مع بداية خلق الله للإنسان وبني آدم حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [سورة الإسراء:70]
بمعنى أن التكريم هو إعطاء الإنسان الكرامة اللائقة به ككائن حي تمييزاً عن غيره، وهذا تفسير لمعان واعتبارات منطقية تدل على الكرم والكرامة من المعطي الخالق الكريم سبحانه وتعالى حيث يحظى هذا الإنسان، ويحظى بخصائص ومزايا تستحق التكريم كما أن العبرة من التكريم هو تحفيز ومكافأة وتشجيع للشخص أو الكائن المكرم ودافع وحافظ له ولغيره لمزيد من العطاء ولمزيد من البذل ولمزيد من المحافظة على الصفة أو الخاصية المكرم من أجلها.
وفي الدين الإسلامي تم تكريم المتقين عن غيرهم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات: 13]، والأمثلة كثيرة ودلالتها أعظم وهامة في الشرائع السماوية وفي ديننا الإسلامي على وجه الخصوص، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم النماذج الحقيقية في تكريم الصالحين والمخلصين والأتقياء، مثل: بلال بن رباح، وسلمان الفارسي بالرغم من عدم تمتعهم بخصائص القرب العائلي أو القبلي وقد كان محك التكريم والتقدير هو المشاركة في التقوى والدين والإخلاص. وهكذا نجد أن صفة التكريم هي صفة أو مبدأ ديني، وكذلك هي صفة ومبدأ تربوي، وإداري؛ لأن استخدام هذا المبدأ من شأنه أن يعلي ويدعم التمسك بالخصال الحميدة للمكرم، وكذلك لمعاني القيم والمعتقدات الثابتة بأنه مبدأ عدل حقيقي لأنه لا يمكن أن تتم المساواة بين من يعمل ومن لا يعمل أو من يضحي ويخلص وبين من لا يفعل ذلك. وهذا هو العدل بعينه والذي من خلاله ارتفعت راية الإسلام عالياً، بل وترسخت كثير من النماذج التي تمثلت فيها هذه الصفات.
وتربوياً وإدارياً أصبح مبدأ التكريم مبدأ هاماً وثابتاً في سياسات وحكام كثير من الدول والمؤسسات والمنظمات فظهرت ما سميت بجائزة نوبل لتكريم العلماء المبدعين في مجالات علمية أسهمت بإسعاد البشرية أو حلول مشاكل لها أو اقتراح أساليب لتطوير وتنمية في المجالات الإنسانية والطبية والعلمية المختلفة.
وجائزة الملك فيصل العالمية هي مثال عالمي آخر لتعزيز الاهتمام بالتراث الإسلامي أو الرسالة الإسلامية الصافية العالمية أو دعم ونهضة أمور الإنسان وصحته وأدبه ولغته، وغيرها من الجوائز العالمية المشهورة التي قامت على مبدأ العدل وترسيخ قيم العدالة والتمييز للمميزين.
وفي الجامعات والمدارس والمصانع والأماكن المختلفة تحظى هذه الجوائز باهتمام كبير لأنها في كثير من الأحيان تهدف إلى التحفيز والتعزيز والتكريم لنشاطات وأعمال من يعملون في هذه المهن أو يحققون إنجازات غير مسبوقة، وإن كان المنطق وراءها هو تدعيم وتثبيت الرواسخ والمعتقدات الصافية لمبدأ التكريم في حد ذاته والاعتراف بالإنجازات والإبداعات ودعمها وإطلاق اسمها.
وفي نظري فإن أفضل أماكن التكريم يجب أن تنتشر وتتعزز في المدارس بداية باعتبارها المحضن الرئيسي لغرس المبادئ واكتشاف المواهب وتعزيزها، ثم استمراراً لهذا المحضن تأتي الجامعات ومؤسسات البحث العلمي ومراكزه التي تهدف في الأساس إلى النظر إلى الأصالة والإبداع والابتكار باعتبار ذلك موضوعها الرئيسي وغايتها وما نشهد من تطور وتقدم في المجالات المختلفة التكنولوجية والعلمية والطبية وحتى الاجتماعية إنما تأتي ثمرة من ثمار البحوث والدراسات العلمية الرصينة والأصيلة، والتي تأتي من خلال علماء ومبتكرين ومبدعين يحصلون بعدها على براءات اختراع وجوائز في مجالات محددة يكرمون بعدها نتيجة لما يساهمون به في المجال، وكذلك في المجالات الإنسانية نجد جوائز أو تكريمات عالمية لمن يحقق جهداً غير عادي لخدمة الإنسانية أو فئة محددة أو من هذه التكريمات.
والجامعات هي أفضل بيئة لمعاني ورسالة هذه الجوائز، ويأتي في هذا السياق شهادات الدكتوراه الفخرية والجوائز البحثية المختلفة التي تمنحها مثل هذه الجهات لرموز سياسية، أو اقتصادية، أو غيرها فمن يقدم ويبذل جهداً أو أعمالاً تتعدى في نطاقها ما يقوم به عامة أو وسطاء الناس أو المؤسسات الأخرى يحظى بمثل هذا الاستحقاق.
والجامعات هي الأنسب مكاناً لوضع المعايير والشروط المستحقة للجوائز والتكريمات المختلفة لأن المناهج العلمية والطرائق الموضوعية تنطلق من مثل هذه المؤسسات الجامعية، وأصبحت بالتالي معقلاً من معاقل منح الجوائز والتكريمات المختلفة للعلماء والطلاب المتميزين والشخصيات الاعتبارية الأخرى حتى ولو كانت مواضيع المنهج والجوائز تتعدى إطار ومهام الجامعة الرئيسية.
***
واليوم وبمناسبة تكريم كاتب هذه السطور والحصول على جائزة الخريج الدولي المميز للعلماء من هذه الجامعة وهي جامعة منيسوتا الأمريكية (University of Minnesota) العريقة التي تعد من أفضل ثلاثين جامعة على مستوى العالم بصفة عامة وفي مجال علم النفس من أفضل عشر جامعات على مستوى العالم، حيث يعرّف الكثير من المختصين ويتعاملون مع بطارية الاختبارات النفسية المشهورة والذائعة الصيت والاستخدام (MMP1) وهو اختبار مينسوتا المتعدد الأوجه الشخصية، كما تمتاز هذه الجامعة بوجود عيادات مايو المشهورة Mayo Clinic في مظلة الجامعة.
وبعد ما يزيد عن عشرين عاماً من تخرجي من هذه الجامعة إذا بهم يختاروني كأول عربي تمنح له هذه الجائزة، وهذا شرف ونعمة من الله سبحانه وتعالى والذي إليه الشكر من قبل ومن بعد وكذلك لوالدي رحمهما الله على حسن تربيتهما وإعدادهما لحياتي، ثم لحكومتنا الرشيدة التي أغدقت وتغدق بسخاء على أبنائها في الداخل والخارج للتزود بسلاح العلم والمعرفة باعتبار ذلك هو الاستثمار الحقيقي للنمو والتنمية.
وقد أحدثت هذه المناسبة وقفة هامة في حياتي لها دلالاتها ومعانيها لي شخصياً ولوطني الذي أتشرف بالانتماء إليه وللجامعة التي تخرجت وتشرف بالدراسة فيها ومن هذه الدلالات:
أولاً: التكريم صفة وسجية مميزة ترتبط بقيم سامية وأهداف نبيلة.
ثانياً: إن التكريم للأعمال أو الأشخاص المتميزين أو المبدعين هو عامل محفز ودافع إيجابي هادف لمزيد من الإبداع والتميز للشخص أو العمل المنجز واستمرار لهذا التوجه.
ثالثاً: إن التكريم وإن كان رمزياً في شكله فإن دلالة معناه عالية في قيمتها تربوياً وإدارياً لمزيد من الإنتاج في المؤسسة «الجهة المكرِمة مما يدفع بشكل غير مباشر في التنمية العامة للتقدم والتطور للوطن أو الدولة.
رابعاً: إن الأشخاص المكرمين والأعمال المكرمة هي جزء من تراث وتاريخ يحرص كل من يستحقه على أن يرصد ويسجل ليستفيد منه في البناء عليه وهكذا.
وبالنسبة لي شخصياً فقد سجلت هذه الوقفة محطة جديدة في حياتي العملية والمهنية تستحق أن يفرد لها مقال أو مقالات أخرى، وهذا ما أنوي عمله في المستقبل القريب إن شاء الله لأن هذه الجائزة الهامة أتت من جامعة عريقة وعظيمة بتاريخ الطويل، فهي شكلت لدي محطة ودروساً وعبراً لي ولمن أعرف شخصياً أو لأسرتي ولجامعاتنا ووطننا.
وقبل أن أختتم مؤقتاً (على أمل العودة في هذا المجال) أود أن أوصي وأقترح على جامعاتنا السعودية سواء تلك التي لها قصب السبق في مجال التكريم أو تلك التي في طور الإعداد لمثل هذه التكريمات بأن تجعل الاهتمام بالخريجين منها محل أولوية في سياستها وبرامجها، وأن يكون هذه عملاً مؤسساتياً ومؤشراً مهماً على حسن الجودة في العمل الجامعي. فنحن أولى بإعلاء مثل هذه القيم.
والله من وراء القصد،،،