د. محمد عبدالله الخازم
رغم كثرة المنتديات العربية ورغم ما قد يحويه بعضها من فكر يستحق المتابعة إلا أن الملاحظ هو نمطية طريقة التقديم أو الطرح في تلك المنتديات وعدم تطور أساليبها بشكل أصبح يدعو للملل أحياناً، وبالذات في ظل الزخم المعلوماتي المتوفر الذي لم يعد مشجعا لأن يترك أحدنا همومه وأعماله لأجل متابعة محاضرة تلقى على الطريقة المدرسية التقليدية، وتخلو من عناصر التشويق والجذب، ويمكن للمتابع ان يجد ما يقال وأفضل من معلومات تلك المحاضرة، في وسائل معلوماتية اخرى، ومنتدى أو منتديات الجنادرية لسنا نريد لها ذلك، فرغم اجتهاد القائمين عليها في طرح مواضيع ذات عناوين شيقة وتتناسب مع الاهتمامات الثقافية المحلية والعربية، والحرص في اختيار اسماء لها حضورها البارز في مجال اهتمامها، فإن فعالياتها الثقافية والفكرية لم تحظ بالحضور المتوقع، ما دفع بعضهم الى الاعتقاد بأن ذلك انحسار لاهتمام المثقف المحلي بالنشاط الفكري والثقافي المنبري، ولكنه اعتقاد ثبت في فعاليات أخرى عدم دقته..
إحدى الملاحظات التي تتكرر على منتدى الجنادرية تتمثل في اختيار المحاضرين وضيوف الندوات، فبالرغم من الاهتمام بالحوار والنقاش الفكري، إلا ان المبالغة في اختيار شخصيات لها مواقع رسمية تعني بداهة، بأنها لن تتمكن من تقديم الطرح الحيادي ولن تقنع المتلقي بقدرتها على تقديم الجديد. حيث ستظل النظرة لها بأنها مجرد شخصيات تدافع عن المؤسسة المنتمية اليها. وفي بعض اللقاءات التي دعي لها أكثر من متحدث تم اختيار مجموعة متجانسة أو متوافقة في مواقفها الفكرية، مما يعني سلفاً تقليص هامش الحوار، الذي يستوجب وجهات نظر متباينة لا متفقة مع بعضها البعض.
الأجدى لتفعيل الحوار اختيار شخصيات ذات توجهات فكرية أكثر تباينا في رؤيتها حول موضوع النقاش، أو شيء من هذا القبيل، ليكون للحوار هنا متعة، تمكننا الخروج بأفكار أكثر غزارة، لأن الأشياء بضدها تتمايز، وينطبق ذلك على الفكر حيث الأفكار بصفة عامة لا تتوالد دون نقاش واعتراض وتوضيح ودفاع وإبراز حجج.. وهذا انطبق على الأمسيات الشعرية واللقاءات الأدبية والثقافية المختلفة.
هناك فن يسمى المناظرة، هذا الفن يغيب تماما عن المنتديات العربية، بل وفي المدارس العربية التعليمية والسياسية، والمناظرة ليست بالضرورة تعني اعلان فشل احد الأطراف ولكنها فن راقٍ في إثراء النقاش وتكثيفه بطريقة جذابة تخلص المنتديات من الحشو والإطناب المبالغ فيه، فلو افترضنا أننا نود طرح قضية ما، فيمكن- على سبيل المثال- أن نعطي الطرف المؤيد عشر دقائق لعرض حججه، ثم نعطي المعارض مثل ذلك لبيان حججه، ثم نعطي كل منها خمس دقائق إضافية للرد على الآخر.. هذا يكفي لنقاش القضية وتكثيف الحجج والطرح في كلام مفيد ومختصر، وفي نفس الوقت يوفر إثارة ويشد انتباه الحضور والمتابعين. لعل المناظرة الوحيدة الملحوظة في الجنادرية وربما في أمسياتنا، تتمثل في ما يسمى بشعر المحاورة والذي يحظى بحضور طاغٍ، أحيانا ليس لقيمته الفكرية بقدرما هي طريقته الجذابة في الالقاء وتساوي الفرص امام المتحاورين..
أعلم بأن غياب هذا الفن في مدارسنا الثقافية سيجعله صعب التطبيق في البداية، في امة تهوى صناعة الكلام، وتجيد فن الحشو، حتى أننا نجد غالبية المحاضرين العرب يعتبر الساعة أو الساعة والنصف قليلة لإلقاء مداخلته، رغم أننا لو جردناها من الزوائد اللفظية والبلاغية لما تطلبت أكثر من ربع ساعة لإلقائها..
اتمنى أن تكون الجنادرية سبّاقة في تبني اسلوب المناظرة الفكرية والثقافية في بعض لقاءاتها القادمة، وأن تتم إعادة النظر في مواضيع النقاش وكيفية اختيار المحاضرين بطريقة تضمن توفير عناصر التشويق والإثارة الفكرية الثقافية، ليتم جذب المتابعين ولنتمكن من الخروج بإضافات ثقافية وفكرية تستحق أن تسجل باسم المحفل الثقافي الكبير: الجنادرية..
نريد حضوراً فكرياً جذاباً للجنادرية، دافعه قيمة ما يطرح. يحضره المتعطشون للثقافة والفكر وليس مجرد اصحاب الدعوات الرسمية.