د. فوزية البكر
«إن العزلة أقوى من أي شيء آخر، ودائما تقودك مجددا إلى الناس، لذلك من الطبيعي بعدها أن تحاول البحث عن طرق جديدة. طرق تبدو أقل ألما، ولكنها في الحقيقية، وبكل بساطة لم تعرف بعد». (كافكا).
هكذا بدأت هنوف الدغيشم روايتها الجميلة أو هي مجموعة من القصص القصيرة المتصلة؟ كل ما أعرفه أني فقط تشبثت بهذا الكتاب الصغير وكنت في كل مرة أحمله بمحبة ولكن بقلق من أن تنتهي الصفحات سريعا فأخسر متعة حطت علي من السماء حين أرسلت المؤلفة الكريمة كتابها إلى منزلي دون أن تعرف مقدار الشغف الذي سيلاحقني بعد هذا الكتاب لكل ما ستكتبه لاحقا.
تقول هنوف ص13 «إن غياب الصخب الاجتماعي الذي اعتدته في مدينتي الرياض، وهذا الهدوء الصارخ الآن حولي، كانا بداية ارتباك داخلي لي، الذي تحول مع الوقت ليس لمجرد تصالح بل تباه بهذه الغربة التي صنعت منها عزلة ووطنا صغيرا وكان هذا الاختلاف هو طريق غير مسلوك سابقا لأصل عبره إلى ذاتي، وأدرك رغباتي وأحلامي الحرة من كل آخر سواي)!
ولا أجمل فعلا: فكيف في صخب مدننا يمكن أن نعرف رغباتنا وأحلامنا التي تعجن في طاحونة العلاقات الاجتماعية المكبلة بحيث نغترب فعلا عن أحلامنا ورغباتنا الحقيقة لنصبح ملكا لرغبة وحلم الآخر.. ألسنا جميعا كذلك؟
تقول ص18»لا توجد أصوات للآخرين في ذاكرتي، لا حوارات تتكرر قبل النوم، لا تفسيرات لشيء حدث، فكل شيء عابر، لا أحد هنا إلا أنا، وأنا بشكلي المتصالح مع ذاتي؟!
«لا أعرف متى تخلصت من الآخر، لكنني تعلمت أن أقدس فرادتي، وخلال السنوات التي مضت، قلصت دائرة الآخر وبدأت دائرتي الذاتية تتسع بأهدافها. لغتي مع الآخر أصبحت سهلة، لا توجسات قبل الحديث، لا تفسيرات بعده، لا محاولات للطف، كان الجميع عابرون.
في تجربتها كطبيبة دارسة في هذه المدينة الألمانية الصغيرة تقول «لم أكن أدرك أن حين استلمت مكتبي لأول مرة في الجامعة أن أصعب جزء في التجربة وربما أكثرها دهشة، هو أنا مع الرجل، ليس أي رجل، إنما الغريب القادم من أرضي نفسها، أن أكون المرأة السعودية الوحيدة في المجموعة الدراسية مع طلاب سعوديين»!
كيف سأتحدث معهم؟ ما الفارق بين الكلام العفوي والجاد، كنت أشعر أني مراقبة، ليس من قبل آخرين فقط، فسطوة ثقافتي في هذه الغرفة كانت علي كتفي وأنا أقلب الأدوار..كنت والآخرون متوجسين دائما في الحديث، في اختيار الكلمات، كنا في المأزق نفسه. مع الوقت أصبحوا يطلقون علي ألقابا مثل الوحش، النفاخة الخ» هل انتبهت إلى البدايات؟ حينما كنت في نظرهم امرأة ضعيفة تحتاج فزعتهم كانوا يهبون للمساعدة. مع الوقت بدؤوا يتجاهلون حيرتي، كان الخوف من أن أكون قريبة منهم في المنافسة بدا مقلقا لهم وكنت أسال نفسي: لماذا يكون نجاحي مزعجا لهم؟ ماذا لو كنت شقراء من غير بلدهم؟ هل كانوا سيتقبلون نجاحي؟ هل كان دائما يجب أن أظل أقل؟
في هذه الغرفة الصغيرة، تفتحت لي آفاق جديدة. ها هو الرجل يقترب.. ها هي هيبته تسقط، وجلاله يتلاشى، لا يبدو مختلفا عن الوجوه التي تملكها المرأة، فهو مرة ضعيفا غيورا، أحيانا تماما خوافا، ومرات مترددا غير قادر على إكمال جملة ومرات أخرى انتهازيا.
في ص31 تكتب «ما الفائدة من الدراسة في الخارج إذا كنا في الدائرة الاجتماعية نفسها؟ العادات نفسها لا تتغير؟ الرجال وحدهم يدخنون الشيشة ويلعبون البلوت! والنساء وحدهن يتسابقن في الكذب ويتناقرن كالديكة!».
ص53 «إن كبار السن في هذه المدينة حتى وهم يقرؤون المنيو في المطعم ويسألون عن مكونات الطبق: يربكونني بهذه التفاصيل الفارقة، فالحياة لديهم مستمرة والرغبة في عيش تفاصيلها متقدة. الحياة لا تنتهي ما دمنا أحياء. لديهم إيمان بقدراتهم. في التاسعة صباحا يمتلئ وسط المدنية منهم. يتحدثون مع بعضهم، يشترون الحليب ويتذوقون الأجبان أولادهم معهم أحيانا، يحفزونهم على الحركة والكلام يتركون لهم فرصة ممارسة تفاصيل الحياة، لا يسلبون منهم رغبة التواصل الكامنة في كل إنسان فحياتهم لا تموت مبكرا ومازالوا يتذوقون جمال أشيائهم الصغيرة.
ص119 «ماذا يعني لي النجاح كامرأة؟ أعرف أني لا أحب أن أضع نفسي في مقارنات مع الرجل لكن هذا يحدث في داخلي، خصوصا حينما أحضر مؤتمرا أوروبيا ليومين كاملين ولا توجد امرأة محاضرة واحدة. فهل هدفي النجاح لمتعة النجاح ذاتها، النجاح كشيء فردي كما الرجل؟ أم أن هذا النجاح تركيبة من البحث عن الأمن والتصالح مع العالم كامرأة؟
إن توقي إلى معرفة نفسي، قادني إلى إدراك صراعاتي الداخلية، أن الصراع بين واجباتي كأم وكطبيبة وكأنثى وبين المرأة القلقة التي تسعي لأن تكون قوية ومستقلة ولها عالمها الخاص الذي يحتويها، أدى إلى حالة من التوتر الداخلي، وكل ما أسعى إليه الآن هو صنع السلام بين النساء المتناقضات والمتشابكات داخلي. إنني أبحث عن حياة شاسعة يمكن لها أن تحتمل كل أوجهي وإشباع كل امرأة فيها.
ص120 «كنت كلما ذهبت في إجازة إلى الرياض أجد صعوبة في الاستماع إلى الآخرين, أشعر بالآسي. لقد أصبحت لا أستجيب لليقين في أحاديث الناس، وأصبحت أستخدم (ربما، لعل، قد يكون، لا أعرف)، إنني أستغرب هذا اليقين العميق في أي شيء تافه يتحدثون به، والجدالات التي يخوضونها، حتى حينما تسألني صغيرتي وعيناها مليئتان بالقلق، ثم تلتهم إجابتي بيقين، أخاف من النظرة التي تتملكها بعد إجابتي. أريد لعينيها أن تظلا دائما متسائلتين مشككتين حتى تصنع يقينها بنفسها!
ص93: في الرياض لم أمشِ يوما في الأزقة، ولم أجرب كيف لأقدامي أن تسير في تلك الطرق الضيقة وبقيت مجرد تصور سينمائي ظننت كثيرا أنها تحمل نكهة الحميمية.
في أزقة فرايبورغ.. أكتشف كل يوم وأنا أدور بدراجتي أو على أقدامي كم هي حنونة ورقيقة هذه المدينة، بمحلاتها الصغيرة وعزف الكمان لطالب على قارعة الطريق ومحلات صغيرة متناثرة تحمل طابع التاريخ والبقاء.
كأني أسمع هنوف بسؤالها التاريخي تقول: لماذا لا أجد كامرأة ذات الألفة في الرياض التي ربيت فيها؟
ص107: مريضتي هذا الصباح امرأة خمسينية متألقة، أعالجها منذ أكثر من سنة، لم يحدث أن تحدثت معي بشيء خارج إطار العلاج ككل المرضى الألمان. تذكرت حينها نساء الرياض أثناء علاجهن، المريضات الملتحفات بالسواد ما أن تستلقي إحداهن على الكرسي وتزيل الغطاء وتمسح عرقها حتى تبدأ في طرح الأسئلة الفضولية: متزوجة؟ عندك أطفال؟ وش الكريم التي تستخدمينه علي وجهك، حينما تسألني إحداهن: دكتورة تشوفيني حلوة؟ زوجي عمره ما قال إني حلوة.فتلمس كتفها الممرضة الفلبينية وتقول أنتِ هلوة كثير!
عالم من التفاصيل المدهشة التي زرعتها هنوف في كتابها الجميل هذا وهو بحق يدعوكم لقراءته.