سهام القحطاني
«سيظل المجتمع الإنساني في صراع وتنافس، لأن كل جماعة تتحرك وفق أمنها وقوتها، وهو ما يجعل حتمية الحرب فاعلاً دائماً» - توماس هوبز - كان السؤال الأخطر في تاريخ القرن العشرين: ماذا بعد الحرب الباردة؟ هذا السؤال الذي فتح الأبواب على مصاريعها على النظريات التي تتنبأ للألفية الثالثة أو مرحلة ما بعد الحرب الباردة. هذا السؤال الذي دارت إجابته بين ثلاث نظريات «نهاية التاريخ، صدام الحضارات، الفوضى الخلاّقة».
مثّلت الحرب الباردة بين «الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي» أو ما يُسمى «نظام ثنائي القطبية» ملامح القرن العشرين، وفي ضوء تلك الثنائية القطبية انقسمت دول العالم إلى قسمين قسم تحالف مع الاتحاد السوفيتي وقسم تحالف مع أمريكا، ومعظم الدول العربية والإسلامية تحالفت مع أمريكا على أساس أن الاتحاد السوفيتي دولة كافرة.
وهكذا نجد أن بداية العلاقة بين العرب وأمريكا تشكّلت وفق الإطار الديني، فكانت أمريكا «أهون الشرين في الاختيار» لِما تتمتع به من خلفية دينية.
كانت نظرية نهاية التاريخ من أوائل النظريات التي سعت لتفسير ما بعد الحرب الباردة.
وتقوم النظرية على فكرة «انتهاء الأيديولوجيات وتعميم الليبرالية الأمريكية لتشمل العالم كله.
قسمت نظرية نهاية التاريخ دول العالم إلى قسمين، عالم ما بعد التاريخ وهي الدول الليبرالية الديمقراطية، وجعلت الولايات المتحدة الأمريكية هي النموذج الأعلى للديمقراطية التي يجب أن تطبق على كل دول العالم، ولذا لا نندهش «إلزامية نشر الديمقراطية» في الشرق الأوسط التي تكدست بها خطابات السيد جورج بوش الابن بداية الألفية الثالثة التي وافقت مع بدايات ولايته.
والقسم الثاني دول التاريخ ويقصد بها الضدي لدول ما بعد التاريخ أي الدول التي لا تطبق الليبرالية ولا الديمقراطية.
أو كما يقول فوكوياما «سينقسم العالم في المستقبل المرئي إلى جانب قد تجاوز التاريخ، وجانب لا يزال عالقاً في التاريخ».
فالليبرالية في نظر فوكوياما تتسم بعدم التناقض وهذه السمة تمنحها حصانة من السقوط والتلاشي كباقي الأيديولوجيات.
وبذلك فنظرية ما بعد التاريخ كانت تسعى إلى «تحويل العالم إلى قرية صغيرة تسيطر عليها مبادئ اللبرالية والديمقراطية».
أعلن السيد جورج بوش الابن عام 2003م «أن الولايات المتحدة ستتبع إستراتيجية مباشرة لإحلال الحرية في الشرق الأوسط» ويضيف «أن الاستقرار لا يمكن شراؤه على حساب الحرية، وما دام الشرق الأوسط مكاناً لا تزدهر فيه الحرية، فسيبقى موقعاً للركود والاستياء، والعنف الجاهز للتصدير،.. وسيكون من الطيش القبول بالوضع الراهن».
وتوضح السيدة مادلين أولبرايت التباين من الديمقراطية والإرهاب بين الإدارة الأمريكية وقادة العرب، فبينما يرى قادة العرب أن الإرهاب في الدول العربية سببه غضب العرب من سياسة أمريكا في المنطقة، ترى الإدارة الأمريكية في المقابل أن الإرهاب في الدول العربية سببه غياب الديمقراطية في الدول العربية؛ فالناس يصبحون إرهابيين عندما يكونون غير قادرين على تحقيق التغيير بوسائل أخرى في المنطق الأمريكي.
كما تقول أن أمريكا سعت إلى «تحويل العراق إلى نموذج للديمقراطية في المنطقة» ليقتدي بعدها العرب فيما بعد، لكن فشل أمريكا في مسعى ذلك التحول أبعد العرب عن النظام الأمريكي «لذا لا يوجد حتى الآن نموذج للديمقراطية يُرضي العرب تماماً» كما تقول السيدة أولبرايت.
كما توضح نوع الديمقراطية التي تسعى أمريكا لفرضها على العرب، إنها تريد ديمقراطية عربية تؤمن بمبادئ أمريكا وتحمي المصالح الوطنية للولايات المتحدة. وأشارت إلى تخوف المحللين الأمريكيين والأمر كذلك للإدارة الأمريكية من نشر الديمقراطية في الدول العربية خارج سيطرة أمريكا، لأن مثل هذا النشر ستسمح «للحركات السياسية الإسلامية بتسلم السلطة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط والخليج، وستكون النتيجة رهيبة من الدول الموحدة في كرهها لإسرائيل ومعارضتها لأمريكا».
لكن هنتجتون وقف في وجه هذا المبدأ رافضاً إياه بحجة أن التوافق الذي ستنتجه نظرية التاريخ هو «وهم»؛ لأن الاختلافات العرقية ستظل حاجزاً لإتمام وحدة الإندماج العولمي بفعل الليبرالية والديمقراطية، وهذه الاختلافات هي التي ستدفع فيما بعد إلى صراعات عرقية.
وفي ضوء هذا الاعتراض ظهرت نظرية «صِدام الحضارات والنظام العالمي الجديد» والتي قامت على «التنبؤ» بطبيعة العلاقة بين دول الغرب والشرق في المستقبل في الألفية الثالثة أو القرن الحادي والعشرين. ونبوءة «صِدام الحضارات» ظهرت عام 1947م عند أرنولد توينبي في كتابه الحضارة في الميزان. الذي يعتمد على أن المستقبل سيكون صراعاً بين الحضارة الغربية وسائر الحضارات.
لكن ما أن نصل إلى برنارد لويس حتى يضيّق دائرة الصراع ليجعل الصراع المستقبلي بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية.
ويذهب إدوار سعيد إلى أن نظرية هنتجتون مستمدة من برنارد لويس.
لكن الواضح أن المشترك عند كل من أرنولد توينبي وبرنارد لويس وصموئيل هنتجتون هو التركيز على «ثقافة الشعوب» كونها هي ممثلة حضارة هذه الشعوب التي ستصبح الأيديولوجية الجديدة الحافزة للصراع المستقبلي.
يُعّرف هنتجتون الحضارة بأنها «الكيان الثقافي الأوسع؛ الشامل للجماعات العرقية والدينية والقوميات». ويعتبر الحضارة أعلى مستوى ثقافي بشري وأشمل من فكرة الهوية الثقافية، وهي ما يميز الجماعات عن بعضها البعض.
أما مكون الحضارة لديه فهو اللغة والدين والتاريخ والعادات وكل ما يحقق الهوية الذاتية للجماعة.
كما يعتمد هنتجتون على فكرة «أن الثقافة هي المؤهِل القادر على تقسيم العالم إلى أنماط ثقافية»، وتلك الأنماط هي التي تقود إلى صدام الحضارات.
أما الدين في رأيه فهو ما ينبني عليه الهوية الثقافية للجماعة وبذلك يُصبح هو أساساً للمجموع الحضاري. وتركز نظرية صِدام الحضارات على فكرة الهوية الثقافية للحضارة باعتبار أن «الظن بالتفوق الثقافي» هو الجالب للصراع بين الشعوب.
وبذلك تؤسس النظرية لإطار الصراع بين الشعوب؛ الإطار المبني على الاختلاف الثقافي الديني للعالم ما بعد الحرب الباردة. أو كما يقول: «لن تكون الصراعات المهمة والملحة بين الطبقات الاجتماعية، أو بين الغني والفقير، أو بين أي جماعات أخرى محددة اقتصادياً، الصراعات ستكون بين شعوب تنتمي إلى كيانات ثقافية مختلفة»- ترجمة يحيى قاعود -. العالم الذي رأى أنه سيصوغ نظاماً عالمياً جديداً قائماً على التعددية القطبية والتعددية الحضارية، المُحفّزة للصراع. وهنا تتعارض نظرية صدام نهاية التاريخ، التي تقوم على فكرة الاندماج العالمي داخل إطار الليبرالية والديمقراطية، هذا الاندماج الذي سيحقق وفق وجهة نظر نظرية نهاية التاريخ التوافق والوحدة البشرية وتلاشي الصراعات العرقية.
تعارض عبّرت عنه نظرية صِدام الحضارات على لسان هنتجتون بأنه «وهم التوافق» وهو «سرعان ما تبدد بسبب تضاعف الصراعات العرقية، وبروز أشكال جديدة من التحالفات والصراعات في العالم» - ترجمة يحيى قاعود -. كما أن نظرية صدام الحضارات لا تعترف بتقسيم العالم وفق ثنائية «نحن وهم» إنما ينقسم العالم وفق «الغرب والآخرين»، والآخرون عنده هم الحضارات الست في العالم؛ الروسية والهندية والإسلامية والصينية واليابانية والأمريكية اللاتينية بمعية الحضارة الغربية.
وتلك الحضارات هي التي تصوغ «التعددية القطبية والحضارية لقلب الصراع» كما استنتجت نظرية صدام الحضارات.