سهام القحطاني
تظل المعلومات هي هي دوما، ولكن ما يجعلها متجددة هي طريقة تفكيرنا في كيفية اكتشافها، أو الأسباب التي دفعت إلى إنتاجها، أو طريقة تسويغها و تحليلها.
إذن نحن هنا أمام معلومات قد مرّت علينا قراءة أو سماعاً، لكن تقديمها وفق روابط خاصة هو المختلف، والرابط هو استنتاج لا يحكمه قربه من الصحة بقدر ما يحكمه قربه من المنطق و تشابه مدخلاته بمخرجاته.
لعل السؤال الذي افتتح به هذا الجزء هو: ما المرجع الذي نربط به سبب موقف أمريكا سواء الشعبي أو الحكومي من العرب؟.
فهل تنظر أمريكا إلى العرب على أساس عرقي؟ ولو كان هذا هو معيارها لتقييم العرب ففي ضوئه لعنتها تُصيب بالتساوي العربي المسلم مع العربي المسيحي و مع العربي اليهودي، أو تنظر إلى العرب على أساس ديني، ولو كان هذا معيارها فلعنتها تٌصيب العرب المسلمين دون غيرهم.
و ترجيح سبب من السببين ليس يسيرا أو هكذا أعتقد؛ لأن فيما يتعلّق «بديننة» الشعب الأمريكي فتبدو لنا نحن الدينيين سواء مسلمين أو مسيحيين أو يهوداً أو الصورة العامة المشهورة عن الأمريكيين أنهم شعب يؤمنون بالعلمانية أكثر من الدين، وقد يسرف البعض في الوصف فيقول إن الدين الحقيقي لأمريكا و الغرب عامة هو «العلمانية». و يؤمنون كما هو مشهور عنهم بأن قيمة الإنسان تكمن في إنجازه الخيّر و ليس في أصل عرقه.
وهاتان الثيمتان هما مصدر حديثي في هذا الجزء من حكاية العرب و أمريكا و الجزء اللاحق.
يقسم الأمريكيون البشر إلى قسمين هما «أبناء النور و أبناء الظلام» ثم أصبح التوصيفان في اضطراد تشعبي؛ فأبناء النور هم ممثلو الخير و التحضر و الديمقراطية، وأبناء الظلام هم ممثلو الشر والتخلف و الإرهاب والاستبداد.
كما أصبح الجميع يعرف أن صناعة القرار السياسي في أمريكا مقسمة بين معسكرين، معسكر الجمهوريين أو المحافظين المتدينين، و معسكر الديمقراطيين الليبراليين.
وينقسم المحافظون بدورهم إلى طبقتين؛ طبقة المحافظين القدامى وطبقة المحافظين الجدد.
لو تأملنا ما حدث للعرب من كوارث على مدى العصر الحديث سنجد أن أعظم الكوارث عادة ما تحدث في «حكم الجمهوريين» الذي ينتمي أكثرهم إلى طبقة المحافظين سواء القدامى أو الجدد.
وما يعني منّا التوقف برهة أمام النسيج الفكري لهذه الطبقة التي ينتمي إليها رونالد ريجان و جورج بوش الأب و الابن وغيرهم من حكام أمريكا الجمهوريين.
في كتابه «أمريكا على مفترق الطرق» يقول فرانسيس فوكومايا في هذا الصدد - عن المحافظين الجدد - أن هذه الطبقة اعتمدت على «عقيدة استراتيجية إسرائيلية ذات خط متصلب» وهذا المسار المتطرف قاد فوكوياما إلى قناعة بأن «المحافظة الجديدة بوصفها نظاما سياسيا وهيئة فكر معا قد تطورت إلى شيء لا أستطيع أن أسانده».
ثم يُلخص فوكوياما ملامح الفكر السياسي للمحافظين الجدد من خلال أربعة ملامح هي: «الهيمنة الخيّرة والقطب الواحد و الاستباق و الاستثنائية الأمريكية»، وهي الملامح التي أصبحت تمييز-كما يقول «السياسة الخارجية لإدارة بوش الابن»، أو كما يسميها فوكوياما «عقيدة بوش».
لكن السياسة الأمريكية لا تنقسم كما هو مشهور بيننا بين الجمهوريين والديمقراطين، بل هناك كما يقول فوكوياما في الأصل أربعة مداخل للسياسة الأمريكية، وهي «المحافظون الجدد ، الواقعيون و الليبراليون و الجاكسونيون» وتعتمد سياسة الواقعيين على «احترام القوة و الاهتمام بحقوق الإنسان» في حين تعتمد سياسة الليبراليين «إلى الميل بتجاوز فرض القوة والعمل ضمن أنظمة القوانين و المؤسسات الدولية» في حين تعتمد سياسة القوميين أو الجاكسونيين إلى «التركيز على صيغ الأمن القومي والأحادية والتشديد على الانعزالية والتمحور المحلي».
إن من يقرأ تاريخ فكر المحافظة الجديدة في أمريكا يجب أن يتوقف أمام مسألة وهي «الدمج بين الفكر اليهودي والمسيحية المندمجة مع الفكر التوراتي» ولذلك قال فوكوياما أن «المحافظين الجدد كانوا في أصلهم مفكرين يهوداً» وإن المحافظة الجديدة «ليست كيانا واحدا..إنها ملتقى تيارات فكرية قد أسفر عن مناطق من الغموض».
والجذور اليهودية لفكر المحافظين الجدد الذين يحملون تراثا دينيا يجمع بين التوراتية والمسيحية، هذا التراث الذي ارتبط ببدايات تاريخهم، فكما يقول السيد باراك أوباما في كتابه «جرأة أمل» «ليست هذه الموجة من التدين جديدة، فقد أتى الحجاج الآباء إلى شواطئنا هربا من الاضطهاد الديني و الممارسات الدينية».
ويستعرض أوباما في ذات الكتاب عن مسألة أهمية الدين عند الجمهوريين من خلال محاوراته مع منافسه الجمهوري «الان كيز» في انتخابات 2004، والذي كما يقول أوباما «استخدم حجة جديدة لاجتذاب الناخبين في الأيام الأخيرة من الحملة» فقد أعلن أن «المسيح ما كان ليصوت لمصلحة باراك أوباما لأنه قر ر التصرف بطريقة لا يتخيل أحد أن المسيح سيتبعها». وكانت كما بقول أوباما حجة الان كيز تسير على النحو الآتي» أسست أمريكا على مبدأين توأمين وهبهما الله هما الحرية و المسيحية» فكيز كان يرى أوباما كما عبر عن ذلك رجل» تملؤه الشكوك و إيمانه الديني فاسد و مغشوش ، وليس مسيحيا حقيقيا و تقيا.
لكن أوباما يفند هذا التخيل المربوط بعقيدته أو بضعفه الديني ليقارب بين أصله الفكري القائم على الليبرالية و الديمقراطية و الطبيعة الدينية للشعب الأمريكي، فيقول: « أعتقد أننا نرتكب خطأ حين نخفق في الاعتراف بقوة تأثير الدين في حياة الشعب الأمريكي، ومن ثم نتفادى الحوار الجاد حول كيفية مصالحة الدين مع ديمقراطيتنا التعددية الحديثة».
وذلك الاعتقاد لأوباما يدفعه ويدفع غيره ممن يحيطون الدين بالهامشية إلى إعادة النظر في القيمة الحقيقية لدور الدين في المجتمع الأمريكي، أو كما يقول: «نحن بحاجة إلى أخذ الدين على محمل الجد وعدم الاكتفاء بمناهضة اليمين الديني، بل إشراك جميع المتدينين في المشروع الأكبر لتجديد و بعث أمريكا» وهو المسعى الذي يدعمه فكر المحافظين الجدد.
الدعم الذي ولَّد نظرية صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي، وحرباً صليبيّة جديدة.