د. محمد بن عويض الفايدي
منهجية التشارك والتكامل والتعاون درجات على سلم الإنجاز وكفاءة الأداء، وتلتقي الفردية والمؤسسية في الاتجاه نحو الهدف وتختلف في الوسائل والأدوات وحجم الجهد واستمراريته عبر مراحل النمو والتطور.
تتعارض الذاتية والأنانية مع روح الفريق
والجماعة في مهارة القيادة وفن الإدارة، فالموروث الاجتماعي التقليدي في الإدارة لا زال يعتبر أن جميع الشئون والأعمال في المنشأة تعد شئوناً خاصة كشؤون الأسرة، وأن الممارسة الاجرائية لا زالت تضفي طابع السرية الشديدة والتكتم والتعتيم على مختلف الإجراءات، في حين أن السرية أضحت تتجه نحو الخرافة، وأن معيار الشفافية معيار محل اتفاق لقياس مدى إتاحة المعلومات وبيان الإجراءات التي تعكس مستوى الأداء ومشروعية آلياته.
غياب العمل المؤسسي تعكسه زيادة الفجوة بين العاملين في المنشأة، وبينهم وبين البيئة الخارجية المحيطة، إذ في أغلب الأحيان لم تستطع ثقافة المنشأة بناء جسور ثقة بين العاملين من جهة، وبين الاستجابة للتطورات والتغيرات الخارجية السريعة والمتلاحقة، والتفاعل معها من جهة أخرى، مما أدى إلى الركود وضعف الإنتاجية، وعدم مواكبة التطور واتباع مسار محدد للتصحيح والتحديث ومعالجة المشكلات ومواجهة التحديات.
يعتمد العمل المؤسسي في إنجاز الأعمال وتنفيذ المهام على قدرة القيادة على المواءمة الفعلية بين أهداف المنشأة وحاجات ومتطلبات الأفراد، وبمقدار هذا التوازن المعتمد على الفهم الموضوعي لهذه المتغيرات والمزج التكاملي بينها يقاس المستوى الفعلي لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات الذي تعبر عنه الدلالة الإحصائية للمنجزات.
تظل الأهداف الواضحة سمة من سمات التفكير الإبداعي الذي يمكن القادة من المبادرة والمبادأة نحو تحقيق السيطرة والتفاعل مع المتغيرات والتقليل من آثارها السلبية، من خلال التنبؤ الذي يساعد على التهيئة لتقبل مؤشرات التفاعل مع المتغيرات وترجيح احتمال حدوثها، والذي بدوره يساهم في تعميم السيناريوهات البديلة للتعامل مع مصادر المخاطر العلنية والمستترة. وتهيئة الموارد المادية والبشرية والمعلوماتية اللازمة وتقييمها قبل توظيفها.
تعاون وتكامل في العمل المؤسسي بين القائد والأتباع لتحقيق السياسات التي تهدف إلى تحسين جوهر القيادة بممارسة الإقناع وتوحيد الجهود وحفزها لبلوغ الاهداف بدرجة عالية من الكفاءة، برفع الروح المعنوية لأعضاء الجماعة من خلال ما توفره لهم من رعاية واهتمام واستجابة وظروف عمل مناسبة. مما يؤدي إلى تحقيق درجة مناسبة من الإشباع لجميع الأطراف بحيث تتحقق في النهاية الأهداف بصورة متوازنة.
تتزايد أهمية العمل المؤسسي تبعًا لتحضر المجتمع ونمو وتطور مؤسساته العامة والخاصة، ودخول التقنية كمتغير فعال في رفع الكفاءة الإنتاجية والإنجاز وكفاءة الأداء، وسيادة منهج التقييم التتابعي لمسار العمل وخطوات الإنجاز.
يتيح مبدأ صياغة الاستراتيجيات تقدير الفرص والبدائل، والتنبؤ بالمخاطر والتحديات على درجات تصاعدية محسوبة في نسب النمو والتطور والتشارك والتعاون والتكامل على سلم الاستقرار الكلي للمنشأة والعمل والعاملين بعيدًا عن الاجتهادات الفردية والنزعات الأحادية التي تُبدد الجهود البشرية والموارد المادية.
التفاعل بين الأفراد وتعميق الأخوة، والشورى، والتشارك في تحقيق الأهداف، والعطاء المتبادل، والقدرة على التجمع، وتحقيق التوازن بين الروح الفردية والروح الجماعية مهمة أساسية للتربية المتوازنة التي تنمي الشخصية السوية التي تحمل المبادأة الفردية والروح الجماعية، بعيدًا عن التسلط والانهزامية.
صياغة المعايير وبناء السياسات وقواعد الإجراءات بموضوعية، وتطويرها بمنهجية علمية سمة مؤسسية تؤسس للثبات والرسوخ والمشروعية التي يحتكم إليها كافة الأطراف والهيئات في حجية ورشد القرارات الضامنة للاستمرارية والنمو والتطور، وتعميم النفع وتوسيع دائرة الإنجاز في إطار المبادئ والقيم التي تُشكل في مضمونها قيمة مضافة تتفرد بها المؤسسية عن الفردية الأكثر شيوعًا في المجتمعات النامية.
استشعار التهديدات وصياغة خطط مواجهتها قضايا حرجة غالبًا ما يخفق فيها الجهد الفردي، ويتميز بها العمل المؤسسي الذي يستشرف من منظور جماعي تلتقي فيه الرؤى الجماعية في ملامسة التهديدات والتعاون على تفاديها وخفض تكاليف مواجهتها والآثار الناجمة عنها. وتجاوز التحديات بما يحاكيها من منجزات فنية وتقنية ومهارات قيادية يمتلك زمام مبادرتها العمل المؤسسي، برفع مستوى أداء الأفراد والكفاءة الإنتاجية بالاختيار والتعيين والتدريب والتثقيف والمهنية المستدامة، ومعالجة محدودية الموارد المالية والمادية بالتنوع والاتساع.
نمو التفكير الأحادي وتمجيد الفردية والرمزية بالقائد الفرد وتسطيح التطوير والتحديث في منشآت القطاع العام سلوك وتوجه لبعض الوزارات والقادة مؤخرًا تمحور في الانسلاخ من مباني الوزارات الرسمية واستئجار أدوار متعددة في أبراج تجارية أو ومبان مستقلة بعيدة في موقعها عن الوزارة الأصل، وأحيانًا يأتي المواطن إلى المبنى الرئيس للوزارة فلا يجد بها وزيرا بل هو في موقع آخر لا يعلمه. في صور آخذة في التنامي بتعدد المباني وما يصاحبه من هدر للمال العام، وتشتيت للجهود، وصعوبة في الإدارة والإشراف والمتابعة والتوجيه، وضعف وسائل الحماية والأمن وزيادة تكاليف توفيرهما في ظل الأزمات وتعدد المخاطر. في مؤشرات دلالاتها حجب مكتسبات التطوير والخبرة ووسائل التحديث والبرمجيات والتقنيات والانهزام بها عند رحيل الوزير القائد لترحل معه كل الخبرات والتجارب في نموذج معاصر ظاهره التطوير وباطنه التخلي عن وطن وهدر مقومات تنميته. في حين أن التنمية ما هي إلا عملية حضارية شاملة تؤدي إلى إيجاد أوضاع جديدة ومتطورة، وتتطلب عملية البناء التنموي بناء مؤسسي مترابط تتوزع فيه الأدوار بين القطاعين العام والخاص، وبين المؤسسات العامة والمؤسسات الأهلية، وكذلك توسيع درجة المشاركة في إنجاز القرار التنموي ومراقبة تنفيذه ومساءلة منفذيه.
مشاركة الجمهور ومؤسسات المجتمع المدني للرقابة على التنفيذ وجودة الإنجاز، وإيقاظ الرقابة الذاتية وتسخير الإعلام لممارسة وظيفته الإصلاحية والتصحيحية، وتأكيد مبدأ الحرية والمساواة في التعامل والعدالة في تقديم الخدمات، وتنظيم ممارسة السلطة بالقيادة الاحترافية تراكمية الغايات، وبالاحترام المتبادل والاعتراف بالتباين بين القدرات والمهارات لمواجهة التحديات في كافة مراحلها بالتقييم والتقويم، وترتيب الأولويات، ورفع درجة التنسيق بين الجهود التي تُشكل في مجملها ملامح العمل المؤسسي بكل أبعاده ومستوياته.
التشارك في المسؤولية، والجاهزية لتفادي الأزمات والحالات الطارئة، ومجانبة الفساد والعمل بضمير وبخطوات ذكية ووضوح للرؤية ووحدة للهدف ونضج القيادة وتنظيم الأدوار ودقة التخصص ومنهجية التفكير في إطار المنشأة الرائدة لا القائد الفذ، تُعد قاعدة انطلاقة في إطار التأصيل لمأسسة العمل الوطني الذي آن له أن يسير في نسق تتوحد فيها التوجهات وتتناغم الأهداف وتتعمق التجارب وتنتقل الخبرات وتتضاعف الإنتاجية بالثقة في كفاءة مخرجات الوطن، وبعيدًا عن الاعتماد الكلي على الأجنبي الذي تلوح بوادر تخليه من وقت لآخر, وذلك بتحويل التحديات إلى فرص والتهديدات إلى محفزات بالتزامن مع برنامج التحول الوطني الذي تشحذ له الطاقات لتكون انطلاقته محل ترحيب مجتمعيًا وريادة تنموية.