د. محمد بن عويض الفايدي
مستقبل استقرار الدول والشعوب مرهون بمدى الفهم الموضوعي لحجم المخاطر والتهديدات المرئية والمستترة التي تستهدف التنمية المادية والبشرية بكل أبعادها ومستوياتها.
تكامل النظام العالمي يعتمد على كمية المعلومات والتقنيات والموارد التي يتم تبادلها على محيط دائرة تُشكل ثورة المعلومات والاتصالات مساحتها في صور تبادلية قد لا تنفك حلقاتها بين مستهلك ومُصدر ومستورد، مما يضعنا أمام واقع حرج يحتاج إلى الكثير من الدراسة والتحليل.
قراءة السلوك الدولي الذي يعكس سياسة نزوة الحرب وتصعيد المواقف وخلط الأوراق لتعويم قواعد اللعبة وتوسيع دائرة المناورة على المصالح الاقتصادية والمكاسب العسكرية والانتزاع القصري لثروات أمم وشعوب مسحوقة تم زرع الفتنة والشقاق بين مكوناتها السياسية والاجتماعية والثقافية من أجل تعميم الفوضى وتعميق الصراع.
مشروع التحول الوطني الذي جاء استجابة لهذه التحديات العالمية بدأت تتشكل ملامح دلالته ضمن مضامين ميزانية هذا العام، ومن خلال الحراك الفكري والإعلامي والمجتمعي حول توجهاته المتمثلة في تنويع وتعزيز مصادر الدخل الوطني، ورفع كفاءة الموارد، وتحفيز وترشيد القطاع الحكومي، وتوسيع دائرة الشراكة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وتمكين مؤسسات المجتمع المدني وأجهزة الرقابة والتقييم والتقويم لرفع الكفاءة الإنتاجية للقطاعات الخدمية والإنتاجية تحت مظلة تشريعات وقوانين مواكبة تُنفذ بصرامة وموضوعية في إطار مؤسسي تكاملي للتنمية الشاملة والمستدامة والمتوازنة يعتمد على منهج التمكين القيادي للقيادات الواعدة والفكر الإبداعي الذي يقبل بالمخاطرة في تمكين الشباب والشابات من قيادة وإدارة المرحلة الراهنة ضمن قواعد النضج القيادي.
بات الإعلام شريكًا إستراتيجيًا للحكومات والشعوب، وأضحت وسائل الإعلام والصحافة تمثل جزءًا رئيسًا في سلوك واتجاهات الناس، فالفرد لا يعتمد على وسائل الإعلام كمصادر للحصول على المعلومات فحسب، بل هو يحتاجها لإيصال صوته وتبني قضاياه وحل مشكلاته، وهو الدور التصاعدي لوظيفة الإعلام، الذي أصبح يُدرك محورية وفعالية دوره في إنتاج الوعي والثقافة وبناء الاتجاهات وتوجيه الرأي العام وصناعة القرار وشرح أبعاده، ومشاركته الفعلية في التنمية والرقابة على تنفيذ الخطط والبرامج، ومد جسور الثقة والتواصل بين الناس وصانعي القرارات في القطاعين الحكومي والخاص ومؤسسات المجتمع المدني.
يشارك الإعلام بتهيئة الرأي العام وصياغة الرؤى وبناء التوجهات وتوجيه الحقائق، ويُعيد صياغة العلاقات الدولية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية والعسكرية والاستهلاكية تحت سقف أزمات متصاعدة لا يمكن التنبؤ الموضوعي بامتدادها. ويغلب على ملامح سياساته نشر الثقافة التوسعية ورمزية الأقوى التي تستجيب لمهددات الأمن الدولي والسلم الاجتماعي في ظل تعويم الحرب على الإرهاب، وتصعيد الأزمات بإعلام متأرجح بين العفوية والقصد.
تتفاوت سياسات الإعلام ومهارات وقدرات الإعلاميين في صياغة الرسائل الإعلامية وتغطية الأحداث وصناعة الخبر وبث الأخبار، وقياس ردود الفعل حول الرسائل الإعلامية وحجم تأثيرها في المتلقي، وتوسيع دور الإعلام ليتجاوز نقل الأحداث إلى صناعاتها وتشكيل سرديات متنافسة تعكس تصورات وسناريوهات الأحداث برؤية لها بعدها الاجتماعي والسياسي والعسكري والنفسي والفكري، بتحول جذري في المشهد الإعلامي يُعزز الاستخدام الفعال لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات التي توظفها وسائل الإعلام الغربي باحترافيه وتتراجع وسائل الإعلام العربي والمحلي أمام التجارب الدولية في الإدارة الإعلامية للصراعات في ظل ندرة الإعلامي المتمرس، وغياب فريق الأزمة الإعلامي، والإعلام الحربي المتمكن من تغطية الحروب وتوجيه مسارها بانتقاء المشاهد بعناية ومعالجتها في إطار قواعد الحرب النفسية قبل بثها، وقياس ردود الفعل حيالها.
تسبق وسائل الإعلام المجتمعي المتحركة في أيدي جل أفراد المجتمع قطاعات إعلام الصحافة والإذاعة والتلفزيون، وتمتهن وسائل أكثر احترافية في الدبلاج والإخراج والتأثير. ولا تقتصر خطورة وسائل التواصل المجتمعي الواتس آب والفيس بوك والتوتر والانستقرام والسناب شات وغيرها على هدم الأخلاق وإفساد المبادئ والقيم النبيلة، ونشر طرق ممارسة الانحراف والجريمة والتطرف والإرهاب، بل تتعدى ذلك إلى نقل ساحات المعركة وحجم القوات العسكرية وتعداد أفرادها وإحداثيات مواقعها.
تجاوز تأثير الإعلام المجال السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي، وأصبح الناس ينظرون إلى الواقع والأزمات والتحديات والمخاطر الحرجة التي تهدد الأمن والسلم الدولي من خلال وسائل الإعلام. يعد الإعلام الحربي ركيزة جوهرية من ركائز الأمن الوطني واحد أهم الوسائل التي تعكس الدور الفعال للقوات المسلحة في دعم التنمية الوطنية في وقت السلم، والدفاع عن الوطن أثناء التهديدات والأزمات. إضافة إلى المناورات العسكرية التي تبعث على الطمأنينة والجاهزية للقوات العسكرية في قدراتها على حماية الوطن وبث الأمان والاستقرار.
يتخصص الإعلام الحربي في تخطيط وتصميم البرامج الإعلامية العسكرية الاحترافية، وصياغة الرسائل الاتصالية الهادفة إلى تشكيل رأي عام مستنير عن النظام الدفاعي والأمني، وعن مستوى أداء وجاهزية وفاعلية كافة القوات العسكرية في تحقيق أهدافها ومهمها الوقائية والدفاعية والقتالية، وقوة وتلاحم إمكاناتها المادية والبشرية والتقنية، والتصدي لحملات الدعاية والإعلام التي تستهدف الأمن الوطني ومعنويات القوات العسكرية خاصة والشعب عامة. في إطار إستراتيجية إعلام حربي شاملة ومستمرة في زمن السلم والحرب لتحقيق هدف مزدوج يتصل بالوقاية والردع يتمثل في بيان استعداد القوات العسكرية لحماية المصالح الحيوية الداخلية والخارجية بكافة وسائل وأدوات التسلح التقليدي وغير التقليدي، بما يكفل الروح المعنوية للقوات العسكرية وخفض الروح المعنوية للعدو، وتبني منهجية التعبئة الواعية بغرس عقيدة التضحية والبذل والعطاء من أجل الوطن في الشعب عامة والقوات العسكرية خاصة، وتوظيف مهارة الإقناع بشرعية التدخل عند نشوب الصراعات، ودعم التحرك الدبلوماسي أثناء وبعد المواجهات العسكرية لتحقيق مكاسب أكبر من الصراع.
تتسع مهام الإعلام الحربي لتشمل نشر ثقافة الوعي بإجراءات السلامة والوقاية وإزالة الرهبة من نفوس الشعب بالتهيئة والإعداد لاحتمالات الصراع المسلح وأبعاد الأمن الوطني واتساع حدوده، وتنمية ثقافة المشاركة بين المدنيين والعسكريين للمحافظة عليه داخليًا وخارجيًا، وبيان دور القوات العسكرية في التنمية الوطنية.
يكشف الإعلام الحربي الوضع العسكري القائم، ودقة الأسلحة المستخدمة في إصابة الهدف، وطبيعة «الأضرار الجانبية» التي تسببت فيها، وينتقي المشاهد القابلة للبث، ويتجنب إتاحة صور ومشاهد القتلى أو الجرحى أو الدمار المؤثرة على الرأي العام. وفي هذا السياق تغيرت معايير ووسائل نقل الأحداث العسكرية والحربية، ويبدو أن الأهداف العسكرية أضحت تُختار وفقًا لمعيار إمكانية تصويرها بدلاً من سعي الفريق الإعلامي وراء الخبر وبهذا أصبح يجده جاهزًا للبث، الذي يصاحبه مهارة مهنية بعرض لقطات مدروسة ومنتقاة بعناية لأهداف محددة بألفاظ مبتكرة لها دلالات إقناع.
التحول الوطني يؤسس لمرحلة جديدة لها أن تختلف في إستراتيجياتها وسياساتها وبرامجها وأدواتها ووسائلها عن العهد الماضي استنادًا إلى منهج التفكير الإبداعي والتخطيط الإستراتيجي والتنفيذ الجاد والتقييم الصارم لكافة البرامج الوطنية التي نجاحها في تحقيق أهدافها مرهون بالجودة والكفاءة الإنتاجية والتنافسية الكفؤة التي تٌفعل عناصر الإنتاج وتقود القطاعات الإنتاجية والخدمية نحو الريادة العالمية. في ظل صراعات وأزمات عالمية تشوبها مشاحة على الثروات والموارد في رؤية ضبابية تتمدد فيها أذرع القوى العالمية للحصول على ثروات وموارد شعوب أخرى غرقت في صرعات وصدامات داخلية وخارجية يخالطها إرهاب مشبوه خلط الأوراق وجعل من الإرهاب اجرام مركب توجهه المصالح وتستغله التنظيمات المقرضة والدول المتمددة لتحقيق أهداف مشبوهة وبلوغ مصالح ضيقة. وهنا يتعاظم دور الإعلام الحاضر في كل مشهد بتخطي محددي الزمان والمكان ليصبح قوة لها بُعدها الجوهري في الأمن الوطني للدول.
تعاظم دور الإعلام الحربي كطرف مؤثر في الحروب والصراعات بمنهجه الضابط لإيقاع الحرب، وقدرته على توظيف لغة السلام بمهارة في إدارة الحروب وتوجيه الصراعات، وفي الوقت نفسه كسب تأييد الرأي العالمي، والترويج الإيجابي للقضية التي يتبناها أو المعركة التي يُديرها، وتوسيع دائرة الحلفاء وخفض وتحييد معارضة الرأي المخالف أو المعادي. وهو ما يُعد هندسة وصناعة وتقنيات للإعلام الحربي الجديد، الذي تستوجب ظروف التدافع والصراع الراهنة تبني تدريس الإعلام الحربي في الجامعات والكليات الوطنية الحكومية والخاصة بمواد دراسية متخصصة ومعارف مهارية احترافية مهنية في أقسام الإعلام، واعتماد مشروع تطبيق عملي لهذا التخصص، وإدراج هذا التخصص ضمن تخصصات الإعلام لنيل الدرجات العلمية، وتضمينه برامج الابتعاث الخارجي للتأهيل الجامعي والدراسات العليا في الجامعات العالمية، وصياغة تشريع متكامل لمشاركة الإعلامي في جبهات القتال ومواطن الصراع وفي مشروعات التدريب والتمرين التعبوي، ووضع نظام شامل يكفل كافة حقوق الإعلاميين المادية والمعنوية المشاركين في عمل مع القوات العسكرية في الداخل والخارج في زمن السلم والحرب بما في ذلك حق التعويض عن الإصابة أو الإعاقة أو الوفاة التي يتعرض إليها الإعلامي، بما في ذلك الأوشحة والأوسمة بكافة مستوياتها ودرجاتها.
الأمن الإعلامي معطى جوهري ضمن مقومات الأمن الوطني على مشروع التحول الوطني أن يضعه في مقدمة أولوياته وبرامجه، ذلك لأنه متغير في التنمية لا يمكن تجاوزه في ظل الصراعات الراهنة والمخاطر المحسوبة وغير المتوقعة الآنية والمستقبلية، الذي له حتمية وطنية في غاية الأهمية لها أن تُفعل وتُحشد لها الإمكانات المادية والبشرية والتقنية، مع ضرورة تبني برامج تدريب عاجلة للإعلاميين على المهارات الأمنية تتناول الأمن الشخصي، وأمن المنشأة الإعلامية، وأمن المعلومات والبيانات والكمرات والأفلام والتجهيزات وأساليب التعامل معها في زمن السلم والحرب وعند الوقوع في الأسر، ومن الأهمية بمكان إيجاد وإعداد فرق إعلامية متخصصة للأزمات، بحيث يتلقى كل فريق مهارات إعلامية تتصل بالتعامل الإعلامي المهني الواعي مع الأزمة في جميع مراحلها وقبل تكونها. يبدو أن إنذار الأزمات والكوارث والحوادث العرضية والتخريبية يلفت النظر إلى مفهوم ينبغي تبنيه يتمثل في الأمن الوقائي الإعلامي بأهمية تنويع وتوزيع مصادر البث الإذاعي والتلفزيوني في أكثر من مكان وبأكثر من أسلوب منها إنشاء استديوهات بث بديلة في الأسواق والمجمعات السكنية الآمنة التي تتمتع بحراسة جيدة. وكذلك التعاقد مع إذاعات وقنوات تلفزيونية خاصة لاستخدامها عند الحاجة. إضافة إلى العمل على فتح مكاتب إعلامية خارجية في عدد من الدول الفاعلة على الساحة الدولية لتنفيذ السياسات الإعلامية التي تُبرز الجهود الوطنية، وتتصدى لحملات الابتزاز التي تثار لأهداف مصلحية وعدائية بأساليب علمية وتقنية ملائمة تحقق مفهوم الردع الإعلامي الذي أصبح أداة فاعلة من أدوات الحرب وإدارة الصراع على الإعلام الوطني مواكبته بتحول إعلامي مصاحب لمشروع التحول الوطني.