حمّاد السالمي
* أسعدني ما تردد مؤخرًا في الصحف من تشكيل لجنة علمية لدراسة وتحقيق ما يكتب ويقال عن قرية (حليمة السعدية)، مرضعة رسولنا الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وهل القرية هي (قرية (الذويبات) ببني سعد من جنوبي الطائف؛ أم غيرها.
ومن ثم تحديد مكان استرضاع الرسول صلوات الله وسلامه عليه بين السيل الكبير والذويبات..؟ وتحديد مكان الاسترضاع هو لب الموضوع في هذه القضية، لأن ديار بني سعد وحليمة في ذلك الوقت؛ كانت تمتد من جبال الذويبات جنوبًا، إلى قرن المنازل قرب مكة شمالًا. وهذا مبحث يطول، وليس له مكان هنا.
* سعدت بهذه الخطوة التي بدأتها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني؛ حتى وهي تأتي متأخرة. ففيها دلالة على اهتمامها بهذا الجانب الحضاري في حياتنا، وما عناني أكثر في تشكيل لجنة علمية من هذا النوع؛ هو أن آثارنا ومعالمنا التاريخية التي تشكو الإهمال والعبث في كل مكان، سوف تصان وتحفظ وتدرج على خط الاستثمار في المستقبل القريب لا محالة، وهي التي وصفتها قبل اليوم في حديث مباشر لي مع (الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز) أمين عام الهيئة في المدينة المنورة؛ بأنها (نفطنا القادم الذي لن ينضب).
* تقاس حضارات الأمم، وتعرف درجة تمدنها، بما تقدم من مجهودات إنسانية، وبما تضيفه من منجزات علمية، تسهم بها في خدمة البشرية، وفي رخاء وإسعاد الإنسان أيًا كان، وفي أي زمان ومكان. فما تتوافر عليه كثير من الأمم في هذا العالم من آثار عمرانية وحضارية شتى، هو خير دليل على ما قدمته وأضافته وأسهمت به على مر عصورها في حضارة العالم أجمع.
* إننا من تلك الأمم التي لها باع طويل في صنع حضارة العالم في أزمنة غابرة، ونملك من الأدلة والشواهد ما يعد كنزًا لا يقدر بثمن، فهل نعرف ونقدر ما نتوفر عليه من كنوز أثرية في مدننا وقرانا على خارطة التراب الوطني بكامله..؟
* الحقيقة في هذا الجانب مُرة.. ليس فقط نحن نجهل القيمة التي تمثلها آثارنا، ولكننا نجهل الكثير منها، بل ونزيد في جهلنا بعدوان صارخ على هذه الآثار، تدميرًا أو تشويهًا إلى درجة مؤسفة حقاً، تجعلنا غير جديرين بما عندنا من هذه الكنوز التاريخية والأثرية.
* كتبت وألفت وصورت وحققت مرات عدة، ووقفت على سدود أموية، وقلاع وحصون ودروب وعيون ونقوش، وفعل غيري كثير من الباحثين في هذا الميدان، ولكن لا حياة لمن تنادي.. لا الوعي لدى الناس ارتفع، ولا الضمير المسئول تحرك في اتجاه رصد هذه الآثار والمحافظة عليها أولًا، ثم وضعها على خارطة الاستثمار المعرفي والاقتصادي ثانيًا.
* ما يحز في النفس حقيقة، أنه لا يمر يوم في حياتنا، إلا ونفقد كنزًا من هذه الكنوز، إما بالهدم؛ كما يجري للقلاع والقصور التاريخية والحصون والسدود، وإما بالتشويه والطمس، كما يجري للنقوش والكتابات الحجرية، التي تغص بها مناطق عدة في بلادنا، وخاصة في جهات الطائف ومكة المكرمة والمدينة المنورة.
* إن آثار السيرة النبوية وحدها؛ والتي تتوزع بين المدن الثلاث: (مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والطائف)، تعد مفخرة عظيمة لهذه البلاد وأهلها، ولما كان عليه أجدادهم وآباؤهم من فهم وإدراك، بحيث حافظوا على ما جاء في سيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، من ذكر لدروب وآبار ومساجد ومصليات وجبال وأودية وغيرها، فلم يمسوها بسوء، حتى وصلتنا؛ فاستلمناها عنهم بفهم سقيم، وفكر عقيم، لا يرقى إلى ما تشكله من قيم كبيرة؛ دينية وتاريخية وحضارية، فأصبحت آثارًا مجهولة عند هذا الجيل، وتحول بعضها إلى هدف للطمس والهدم، كما وقع في جبل أحد من قبل.
* نحن اليوم؛ وجهًا لوجه أمام ثروة وطنية حضارية لا تقدر بثمن. هذا هو دور الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وهي المنوط بها هذا الجانب التاريخي والحضاري، الذي سوف تسألنا عنه الأجيال القادمة..؟! فنحن لم نحسن الحفاظ عليه وصيانته كما ينبغي، عوضًا عن استثماره معرفيًا على أقل تقدير.
* لعل في هذه اللفتة البحثية المهمة؛ التي طالت السيدة حليمة السعدية وقريتها، وبالتالي تحديد مكان استرضاع المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ما يكمل التصور الحضاري الجسور الذي نتوخاه من سمو أمين عام الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، لوضع كافة مناطق المملكة التاريخية- وفي مقدمتها مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف- على خارطة الاستثمار السياحي، ذلك أن الصورة الحضارية لبلادنا؛ لن تكتمل بدون تاريخها القديم، المتمثل في موروثاتها وآثارها التاريخية، وما أكثرها وأعظمها وأجلها لو كنا نعلم.
* بوسعنا أن نخدم آثارنا كما ينبغي، حتى تكون دالة علينا بما يسر، شاهدة لنا لا علينا:
هذه (آثارنا) تدل (علينا)
فانظروا (بعدنا) إلى الآثار..!!