م. خالد إبراهيم الحجي
إن تصرفاتنا السلوكية والعملية في الواقع نجدها تخالف في بعض الأحيان ما نردده على مسامع الآخرين وتناقض ما ندعو إليه، ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة في التناقض بين التطبيق العملي على أرض الواقع وبين أقوالنا اللفظية والشعارات التي نرددها،
وهذا التناقض يعتبر شكلاً من أشكال خداع النفس؛ لأن خداع النفس هو الجري وراء السراب، أو التعلق بالحلول المثالية البعيدة المنال التي يصعب تحقيقها على أرض الواقع، ومن صور خداع النفس أيضاً تسويغ الأخطاء التي تخالف الدين والعرف أو تبرير المخالفات والمغالطات التي تناقض العادات والتقاليد الاجتماعية الموروثة، ولا أدل على ذلك من الأسئلة الكثيرة التي ترددها أغلب شرائح المجتمع وتعكس حيرته بشأن تأمين مواصلات النساء مثل: (1) كم عدد السائقين الأجانب الذين يأخذون بناتنا إلى المدارس والجامعات؟ (2) كيف يمكن للمعلمات وأساتذة الجامعات والطبيبات وغيرهن من العاملات في مختلف القطاعات الخاصة والعامة الذهاب إلى أعمالهن والعودة منها عند عدم وجود سائقين؟ (3) كيف يمكن للنساء قضاء حاجاتهن الضرورية في المؤسسات المتعددة والأسواق المختلفة برفقة السائقين الأجانب مع عدم وجود محارمهن؟ (4) وكيف تتمكن النساء الملتزمات من قضاء حاجاتهن إذا رفضن الركوب مع السائقين الأجانب خوفاً من الخلوة، عند غياب المحارم أو غياب أولياء الأمور في مهمات أعمالهم المدنية أو العسكرية التي قد تستغرق أياماً أو أسابيع أو شهوراً؟ واستقدام السائقين الأجانب أصبح مظهراً وضرورةً لا يستغني المجتمع عنها، حتى أشد الناس التزاماً وأكثرهم خوفاً من الوقوع في الحرام يضطرون إلى استقدام السائقين لتلبية متطلبات نساء الأسرة، كما أن السواد الأعظم من الأسر السعودية الفقيرة وجميع الوافدين يسكنون في مساكن صغيرة ولا يوجد لديهم سكن سائق ويعانون الأمرين لتأمين مواصلات النساء. وهناك اعتقاد سائد وخاطيء وهو أن مشكلة المواصلات بالنسبة للنساء تقتصر علي الطبقات الفقيرة فقط، والصحيح أن جميع طبقات المجتمع الغنية والفقيرة تعاني من هذه المشكلة أيضاً، كما نشاهد نساء الأسر الغنية التي تملك عدداً من السيارات المتنوعة الفارهة عند سفر السائقين في إجازاتهم السنوية، أو خروجهم نهائياً يلجأن إلى ركوب سيارات الأجرة لقضاء حاجاتهن المختلفة، وتبقى السيارات الفارهة معطلة بلا فائدة في كراجات المنازل، حتى عودة السائقين إليها مرة أخرى.
ومنع النساء من قيادة السيارات في المملكة قضية أثارت دهشة واستغراب كثير من الزائرين للمملكة لأول مرة من الدول الأجنبية، كما حدث في يومٍ من الأيام عندما جاء فريق عمل ألماني إلى الرياض، وخلال وجودهم تطرق الحديث معهم إلى العادات والتقاليد السعودية، وتساءل أحد أعضاء الفريق عن كيفية ذهاب الطالبات السعوديات إلى المدارس أو الجامعات لقضاء حاجاتهن الضرورية، كما تساءل عن طريقة ذهاب النساء إلى أعمالهن أو إلى الأسواق، كما استطرد أحد أعضاء الفريق الزائر وتساءل عما إذا كان منع النساء من قيادة السيارات لأسباب دينية أم اجتماعية، وذكر أن سبب سؤاله هو أنه قرأ في جوجل أن قياد النساء للسيارات في المملكة قضية رأي عام في المجتمع السعودي، وتعجب عندما قرأ أن نظام المرور السعودي لا ينص على منع النساء من قيادة السيارات ومع ذلك فإنه لا يصدر رخص قيادة للنساء.
وقضية منع النساء من قيادة السيارات أنتجت مشكلة يعاني منها جميع المواطنين والوافدين على حد سواء وأنتجت حالة الاستقطاب داخل المجتمع السعودي، فهناك فريقان في المجتمع السعودي: الفريق الأول: يرفض قيادة النساء للسيارات ويقلل من شأن المعاناة في تأمين المواصلات للنساء، ومع ذلك لا يقدم إجابات شافية للتساؤلات السابقة، كما يعتبر من يؤيد قيادة النساء للسيارات أو يدعو لها من المغرضين ويتهمهم بالسعي للتغريب، والفريق الثاني: يؤيد قيادة النساء للسيارات ويدعو لها ويعترف بالمعاناة في تأمين المواصلات للنساء ويشتكي من صعوبتها صباحاً ومساءً، لأن منع النساء من قيادة السيارات يترتب عليه مشكلات كبيرة، وهذا الفريق الذي يؤيد يطالب الفريق الآخر الذي يرفض قيادة النساء للسيارات النظر إلى هذه القضية بموضوعية وحيادية بعيداً عن الاستقطاب، أو يقدم حلولاً عملية للمشكلات التالية:
أولاً: وجود خلوة محرمة بين المرأة والسائق الأجنبي وهذا ما يرفضه الدين الإسلامي والعادات والتقاليد
ثانياً: الحاجة إلى وجود سكن خاص للسائق الأجنبي في فناء المنزل الذي تسكنه الأسرة.
ثالثاً: ضرورة اقتطاع مرتب خاص للسائق من دخل الأسرة السعودية، مما يضيف عبئاً اقتصادياً على كاهلها.
رابعاً: صعوبة توفير سكن للسائق بالنسبة لكثير من الشباب الذين في مقتبل حياتهم الزوجية، وكذلك أسر الوافدين التي تسكن شققاً مؤجرة خالية من الملاحق.
خامساً: الصعوبة الشديدة على رب الأسرة للتوفيق بين الانضباط في الحضور والانصراف من عمله وبين الحاجة إلى خروجه لتلبية مواصلات عائلته عند عدم وجود سائق.
إن مشكلة تأمين المواصلات بالنسبة للنساء تجسد التناقض الاجتماعي عندما يُمْنَعنَ من قيادة السيارات خوفاً من اختلاطهن بالرجال الأجانب أو الخلوة بهم، ومن جانب آخر يخرجن مضطرات مع السائقين الأجانب لأنه لا يوجد عندهن حلاً آخر غيره، فيخرجن لقضاء حاجاتهن فيحدث الاختلاط والخلوة التي نفر منها، وبالتالي فإن الفريق الرافض لقيادة النساء للسيارات هو الذي يتحمل إثم كل امرأة تختلي مع السائق الأجنبي.
الخلاصة:
إن قيادة النساء للسيارات هي الحل المثالي والواقعي والعملي والجذري للخروج من المشكلات السابقة، وأهمها عدم الخلوة مع السائق الأجنبي والاستغناء عن تأمين مرتبه وسكن خاص له في المنزل، وتحايل رب الأسرة للتوفيق بين الدوام ومتطلبات زوجته وبناته لقضاء حاجاتهن.