د. جاسر الحربش
الهجرة اختيار والهروب اضطرار، والحديث هنا عن هجرة الاختيار لا هروب الاضطرار.
أيام التخصص في ألمانيا خرجت بالسيارة مع زوجتي وطفلي الاثنين للنزهة وتناول وجبة الغداء في أي مطعم نجده على أطراف غابة مجاورة. اخترنا أحد المطاعم، وما أن جلسنا إلى الطاولة حتى لفت انتباهنا وجود امرأة عجوز ترمقنا بنظرات تنم إما عن حنان أو حنين. لفت نظرنا أكثر وجود أركيلة بجانبها تشفط منها من آن لآخر نفسا ً ثم تزفر بقوة في الفضاء. بعد دقائق سألتنا العجوز من بعيد: إنتو عرب؟.. أكيد إنتو عرب. قلنا نعم، فاستأذنت وأحضر لها صاحب المطعم كرسيها الخاص إلى طاولة بجوارنا. قالت العجوز بلهجة لبنانية هذا ابني وأشارت إلى صاحب المطعم، والمطعم له، ومعنا الجنسية الألمانية ولكن نحن لبنانيون، وأنتم من الخليج ومسلمين مش هيك ؟. قلنا نعم نحن مسلمون من السعودية. كانت المرأة مسيحية عربية من لبنان طوحت بها طروق النوى إلى الاغتراب مع أسرتها. تناولنا طعام الغداء وتحدثنا مع العجوز اللبنانية وتكلمت هي أكثر مما كنا نتحدث. مما قالته إنها تشعر بفرحة شديدة إذ قابلت اليوم عربا ًهنا لأن ذلك لا يحدث إلا نادرا ً، وأنها تحس بسعادة عندما تتحدث العربية وتشم رائحة العرب وأطفالهم فذلك يذكرها بقريتها في لبنان وأهلها ويجدد في روحها الحنين حتى إلى مقابر أجدادها المدفونين هناك. عند الانصراف أقسمت العجوز أن لا ندفع الفاتورة وألحت علينا بالمرور عليها من آن لآخر.
لعل قصة هذه المقابلة العابرة تعطي مدخلا ً مناسبا ً إلى الحديث في موضوع يكثر الكلام فيه هذه الأيام، موضوع الهجرة أو الاغتراب. مما قيل ويقال إن عشرات الألوف من السعوديين اتخذوا قرار الاغتراب بالفعل وأن غيرهم يبيت النية على ذلك. ليس المهم العدد، فالأوطان لا تقل ولا تكثر بسبب أعداد المهاجرين منها، المهم هو الهجرة النوعية أو اغتراب أصحاب العقول والكفاءات، ومهم أيضا ً بالنسبة للمهاجر نفسه أن يعرف أنه بالفعل سوف يدخل في غربة واغتراب لن يشفي لواعجها ما قد يتحقق له معيشيا ً في الغربة من أهداف، مقابل القطيعة مع اللغة والديار وبقايا الأهل الأصحاب ومقابر الأجداد والأسلاف.
من خلال الحديث عن أسباب الهجرة والاغتراب يتركز التبرير الأول على البحث عن الحق في الحصول على حياة لا يقولبها المجتمع ولا يتدخل فيها أو يضع لها اشتراطات القبول والرفض تيارات أو جيران أو هيئات لها فهمها الناجز والخاص بالحياة، ودعونا نطلق على المكتفين للهجرة بهذا التبرير «أصحاب الأفكار الحائرة».
التبرير الثاني يتركز على هجرة تحمل ماهو أكثر من المغادرة، أي قرار عدم العودة، تلك هي هجرة العقول فائقة الذكاء والكفاءات المتميزة، تحديدا ً بسبب فقدان البيئة الاجتماعية والتربة العلمية الصالحتين للإبداع العقلي والفكري ولمتابعة الأبحاث العلمية في المراكز العالمية المرموقة من حيث وصلت إليه وليس بطريقة الخضوع لأولويات وشللية ونكد البيروقراطيات في العالم الذي يعتبر «لا علميا ً» حتى لو ادعى الالتحاق بالمراكز البحثية، ودعونا نطلق على معتنقي هذا التبرير للهجرة «أصحاب العقول الاقتحامية».
لابد من وجود تبريرات أخرى للغربة والاغتراب، قد يكون منها الفشل أو الخوف من الفشل المعيشي وعدم الاطمئنان إلى مستقبل المنطقة الإقليمي والبحث عن تعليم واستغلال للمواهب أفضل بالنسبة للأبناء والبنات، وقد يكون أحيانا ً الهروب من الذات نفسها بسبب متلازمة القلق والوسواس القهري.
أعتقد، وهذا رأيي المتواضع أن جميع التبريرات ينقصها الفهم العميق لمعنى ومسيرة ونهايات الغربة والإغتراب، ربما باستثناء ذلك التبرير الناتج عن إلحاح العقول الاقتحامية الحادة الذكاء والكفاءات العالية الجودة، لأن هذه النوعية من البشر لا تستطيع الصمود في البيئات المحوطة بأطر وأسيجة تقليدية وبمقادير محددة من المياه والمغذيات الفكرية التي تزداد أو تنقص حسب متطلبات تتعارض مع المتطلبات المعرفية والاكتشافية. أصحاب هذه العقول يصابون بالاكتئاب والانطواء والضمور، ويكون الفاقد الحقيقي هو الوطن الذي أهمل استنباتهم وجني ثمارهم، ثم تخلى عن ذلك لأوطان الغربة المتعطشة لهم رغم ارتوائها العلمي.
الاغتراب، عندما يكون القرار فيه نهائيا ً يكون جسديا ً وروحيا ً في آن واحد. في البداية يغترب الجسد ويعبر عن ذلك بابتهاج الجسد وعنفوانه المادي واستنشاق الرئتين بشغف للرياح الجديدة، ولكن الروح تبقى كامنة تراقب بدقة متناهية ما يحدث من مكانها القصي الذي لا يعرف الجسد تماما ً أين يكون مكان الروح فيه، أفي الدماغ، في القلب، في مجاري الدم، أم أنه مبثوث في كل خلية من خلاياه المستعصية على العدد والإحاطة. في النهاية، بعد هدوء الجسد أو ضموره أو تقادم وظائفه تعصف الروح ويبدأ الالتياع والشوق إلى الزمان والمكان، إلى ذلك (الزمكان) الأول.
ذلك الشوق هو ما كان يعذب تلك العجوز العربية المسيحية اللبنانية في مطعم على أطراف غابة في بلاد كل أهلها مسيحيون مثلها، ولكن اللغة والروائح ومقابر الأجداد كانت غائبة عن ذلك (الزمكان). من هذا المنطلق اخترت عنوان المقال: الهجرة والتفكير، وأدع لكم التأمل الأعمق فيما يبدأ هجرة وينتهي بتفكير.
ملاحظة أخيرة: لم يعد الخوف من انحراف أبناء وبنات الجاليات المسلمة في الغرب مبررا ً، لأن الملايين من المسلمين المهاجرين استطاعوا تنشئة أجيالهم اللاحقة بمعايير ومفاهيم إسلامية قد تكون أفضل من مجتمعاتهم الإسلامية الأصلية، والشاذ والنادر لا حكم له على المجاميع.