د. صالح بن سعد اللحيدان
من نافلة القول على الطراد سلف من بيان ما كان عليّ واجبٌ بيانه فقد حمد مساري كثيرٌ من العلماء المثقفين خصوصاً طلاب الدراسات العليا. وذلك أن كثيراً مما سلف القول عنه كان قد غاب لا بسبب الجهل، ولكن قد كان بسبب الاتكال على الاسم المجرد أو الكنية أو اللقب دون فهم لما يرمي إليه هذا أو هذا أو ذاك.
وهذا موجبه الاختلاط بين كثير من المتشابهات من الكنى والألقاب وكذلك ما يقع في التشابه من الأسماء.
وقد كان هذا سبباً دون شك في نسبة بعض الأقوال والآثار إلى غير قائلها لكن لما كان التشابه حاصلاً نسبَ كل قول إلى غير قائله دون تمحيص أو تدقيق أو قوة نظر وسداد ملاحظة وعمق إحاطة.
ولا جرم فإنَّ هذا أراه في هذا العصر من موجبات الضرورات التي يلزم على العلماء والباحثين والمثقفين الاطلاع على هذا.
ولست بصدد التعليم وإنما بصدد التنبيه والإيضاح والدلالة على أننا من لوازم العلم للإضافات النوعية أن ندرك حقائق الأسماء وأصحابها والكنى وأصحابها والألقاب وأصحابها.
وهذا ينجرُ على كثير من الأماكن.
على سبيل المثال ديار بني سعد التي منهم حليمة السعدية أم النبي - صلى الله عليه وسلَّم - من الرضاعة فهناك من قال: إنها من هذيل.
وهذيل فيهم بنو سعد وهناك من قال هم من بني سعد من هوازن شرق جنوب الطائف. وسبب الاختلاف العجلة في الحيثيات واللوازم المكانية والاسمية وكذلك التثبت والجمع بين الآراء والأقوال والاختلافات للوصول إلى نتيجة.
وهذا كما نرى ليس سببه الجهل بالموضع ولكن سببه العجلة وعدم التخصص وهناك شيء لعله يقفز بين ثنايا الدراسات (وهي العاطفة). والذي يظهر لي والله أعلم أن حليمة أم النبي - صلى الله عليه وسلَّم - من الرضاعة هي من بني سعد شرق جنوب الطائف.
وكنت أود من المسؤولين خاصة هيئة الآثار ووزارة الشؤون البلدية ألا تتعرض للآثار وذلك للدلالة على الموضع فقط بعيدا عن التبرك وما يجري مجراه.
وخذ مثلاً ما جرى فيه القول عن الوأد فإنَّ هناك من ظن أن الوأد ليس على حقيقته الذي هو القتل كما في قوله تعالى [ وإذا الموؤودة سئلت ]، فذهب المخالف مذاهب شتى وأخضع هذه الآية للتحليل النقدي والتحليل النظري والتحليل الاجتهادي ولو نظرنا إلى كل هذه لوجدنا أن المخالف أبعد النجعة ونزل البصرة بليل.
ومن المعلوم عند كبار العلماء كابن جرير وبن العربي وبن الجوزي وبن كثير ومن نحا نحوهم قالوا عن هذه الآية إنها على الحقيقة واستدل كثيراً منهم كقوله تعالى [ ولا تقتلوا أولادكم ] وهذا دال على أن الوأد هنا قتل الفتاة لأسباب معروفة ومن لا دين له لا أمانة عنده، كذلك قال الأقدمون عبر القرون المتطاولة في أسفار الخالدين.
وهذا الخطأ الذي حصل إنما جاء من إخضاع شيء لشيء لا يدل عليه ولا يرمي إليه بحال، فأنت لو ذهبت تعالج المعدة إلى طبيب الأذن والأنف والحنجرة لقيل عنك إنك أحمق، كذلك الحال فيمن أخضع شيئاً لشيء ليس سواء لا في المثال ولا فيه الدليل ولا في الحقيقة.
ولست أزعم أن من قال خلاف الحقيقة يريد السمعة أو ذيوع الصيت فلا ندخل في النوايا، لكن قصدي ضرورة التخصص والموهبة العلمية في آليات النقد والطرح العلمي وعدم الخلط بين الدراسات النقدية وبين النقد الموهوب.
وخذ مثلاً (الطير الأبابيل) فهناك من فسرها بمرض الجدري ويعيزوني القول في نقاشي هذا بأن قائل هذا القول ذهب ذات الشمال وإنما المقصود أن يذهب ذات اليمين والآية واضحة من حيث اللغة ودلالتها على المعاني.
طراً وهذا المثال كغيره حينما نخضع الحقيقة لغير الحقيقة وحينما نخضع الحقيقة لرأي مجرد بعيداً عن فهم ودلالة اللغة ومرامي الآثار الأخرى المتماسكة فإنَّ القرآن يفسر بعضه بعضاً.
وهذه الأمثلة غيرها كثير في هذا الحين ولعل الخافي أكثر ولكن ما باليد حيلة.
وندع هذا إلى إيضاح بعض ما يجب إيضاحه من الأسماء التي اشتهرت دون معرفة بتمام الاسم أو الكنية أو اللقب فخذ مثلاً: سيبويه أسأل كثيراً عنه سوف لا تجد إلا شيئاً غير ذي بال.
فسيبويه يكنى بأبي بشر واسمه عمر بن عثمان ولقبه سيبويه وهو من بلاد الفرس، لكنه نشأ وأخذ العلم بالبصرة وكان من شيوخه الإمام المحدث الثقة حماد بن سلمه فأخذ عن هذا العالم علم الحديث والفقه، فقه الأحكام. وسيبويه هذا كان بين الطويل والقصير ويميل إلى البياض وكان قليل الكلام جاداً يميل إلى الانزواء.
واعتبره حسب دراساتي النفسية من الموهوبين القلائل وقصته مع الإمام حماد أنه كان يكتب عنه وحماد يملي عليه هذا الحديث (ليس من أصحابي أحد إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء)، فقال سيبويه من باب المعارضة الاستفهامية ليس أبو الدرادء فزبره حماد قائلاً: لحنت يا سيبويه إنما هذا استثناء هنا قال سيبويه: (لأطلبنَّ علماً لا يلحنني معه أحد قط). وقراءة تاريخ هذا الرجل تعطي القارئ حسن الأخلاق ودقة العلم ونبوغ الرأي ومحاولة البعد عن الأضواء.
ثانياً: الكسائي ويكنى بأبي الحسن علي بن حمزة كذلك نشأ في العراق بمدينة الكوفة ولازم كثيراً من العلماء وكان كثير الصمت والدل وشدة الحياء، وقد أخذ القراءة مدة طويلة عن الإمام حمزة الزيات ويُعدُّ من أجل ذلك أحد القراء السبعة وإن كان مُقلاً في هذا، وكان الكسائي في أول أمره لا يعقل من النحو شيئاً حتى طلبه في كبر سنه فاستوعبه وأجاد فيه. وقراءة تاريخ هذا الرجل تعطي الإصرار وقوة علو الهمة.
ثالثاً: ابن هاني لو سألت أحداً عن ابن هاني لم يكد يعرف إلا أنه ابن هاني ليس إلا أو أنه ابن هاني الأندلسي، وهذا أمر عندي جليل إِذْ كيف يُجهل مثله.
يكنى بأبي القاسم واسمه محمد بن هاني وأصله من الأزد، لكن لا أدري هل هي نسبة أو نسبة ولاء، نشأ بإشبيلية وذلك في العهد الأموي في زمن الملك العادل الناصر، وإشبيلة كما ذكر كثير من المحققين تعتبر ملاذا للعلم وأهله والتجديد الإضافي، من أجل ذلك منّ الله على هذا الرجل بكثير من العلم والحكمة والشعر وله قصائد خالدة خاصه في الرثاء وليس هذا مجال إيراد شعره.
رابعاً: ابن رشد وهذا يختلط بابن رشد الآخر ولا يكاد قليل الاطلاع على تاريخ العلماء التفريق بينهما إلا من شاء الله، وإنما المقصود بابن رشد هذا إنما هو الوليد بن محمد بن أحمد من أهالي قرطبة وكان قاضياً عالماً مدركاً وله آراء في الحكمة والأمثال. وقراءة تاريخ هذا الرجل تعطي شيئاً ذا بال من العمق والدراية في مجريات الأمور وسياسة العقل وقوة النظر في كل واقع يكون.
خامساً: ابن منظور هذا الرجل ليس أحد يجهله لكن لعله يفوت اسمه ولست أظن أحداً إلا وهو بحاجة إلى علمه لولا ما جرى عليه من وشاية أقاربه حسداً وبغياً، ولكن الله رفع ذكره مع ما لقيه من الإهمال والصد والترك فسبحان من بيده مقاليد الأمور.
وإنما هو جمال الدين محمد بن المكرم فإذا قيل ابن منظور فهو هذا وإن قيل ابن الكرم فهو هذا وإنما غلب عليه الأول وأجمع من تجرم عنه أنه كان ذا دين وإيراده واعيه وبعيداً عن حب الجاه. ولا أحد يجهل (لسان العرب).
سادسا: ابن العميد لا يكاد يعرف إلا بهذا مع أن الحاجة داعية إلى الإطلاع على حياته وما جرى عليه من مشاق ومتاعب لأنه لم يُفهم (بضم الياء).
وابن العميد هو أبو الفضل محمد بن الحسين من بلاد الفرس كان حكيماً وبليغاً ومن ذي الكتابة المتنوعة المتماسكة، وله شعر جزل جيد ورسائله مبثوثة في كثير من كتب الأدب وكتب العلم هنا وهناك.
سابعاً: أبو داوود السجستاني وهذا قد يختلط مع أبي داوود الطيالسي. وكلاهما أمام ثقة ثبت.
وإنما المقصود الأول واسمه سليمان بن الأضعث السجستاني صاحب (السُنن) وصاحب (رسالة إلى أهل مكة).. ويُعدُّ من أصحاب الكتب الستة وله دراية ورواية في علم الآثار والحكم والأمثال. وليس له ولد في ما أعلم اسمه داوود لكن هذه الكنية عرف بها. وإنما أكبر أولاده عبد الله وهو الذي نقل الرسالة عن أبيه إلى أهل مكة لبيان منهجه وشرطه في كتابه ( السُنن).
وسوف ان شاء الله نلحق هذا بغيره في توالي التابعات.