نجيب الخنيزي
على صعيد السياسة الخارجية فإن الولايات المتحدة التي امتلكت (بعد إنهاء الحرب العالمية الثانية) منفردة حوالي 50 % من ثروة العالم على الرغم من أنها تمثل حوالي 6% فقط من سكانه سعت إلى إحكام قبضتها وسيطرتها العالمية بدءاً من أوروبا وانتهاءً بدول العالم الثالث.
فعندما وضعت الولايات المتحدة خطة «مارشال» في سنة 1947م لإعادة بناء أوروبا كان الهاجس الرئيسي المسيطر عليها هو احتمال وصول الشيوعيين إلى السلطة في العديد من دول أوروبا الغربية وفي ضوء الخراب والانهيار الاقتصادي وتوطد مواقع الشيوعيين نتيجة مشاركتهم في المقاومة الشعبية ضد الفاشية، لذا كان الشرط الأول لتنفيذ خطة مارشال هي إخراج الوزراء الشيوعيين من السلطة، وقد تحقق ذلك بالفعل إذ استبعد الوزراء المنتمون للأحزاب الشيوعيين من حكومات فرنسا وإيطاليا وبلجيكا في مايو 1947م، وأعلن رسمياً عن «مشروع مارشال» في يونيو عام 1947م وظلت هذه السياسة الأمريكية مستمرة فيما بعد وتفيد بعض التقارير الموثوقة بأن المخابرات الأمريكية كانت ضالعة في اغتيال رئيس الوزراء الإيطالي وزعيم الحزب الديمقراطي المسيحي السابق أندرومورو في منتصف السبعينيات بسبب تجاوبه مع أطروحات الحزب الشيوعي الإيطالي حول مفهوم «الكتلة التاريخية الجديدة» التي طرحها الأمين العام للحزب بير لنغوير، والمفارقة أن تكون الأداة المنفذة لجريمة الخطف والاغتيال للزعيم المسيحي هي الألوية الحمراء (اليسارية المتطرفة) الإيطالية وهو مؤشر دال على مدى اختراق أجهزة المخابرات المركزية لمختلف التشكيلات والمنظمات بما فيها التي ندعي أنها الأكثر جذرية وثورية.
وعلى صعيد آخر فإن العلاقة بين الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي مرت بمراحل مختلفة من التوتر الذي يصل إلى حد التدخل السافر في الشئون الداخلية لتلك الدول تجسيداً لمبدأ مونرو سيئ الصيت واتخذ التدخل الأمريكي في شؤون القارة الجنوبية أشكالاً مختلفة سواء عن طريق الغزو أو تدبير الانقلابات العسكرية وتغيير الحكومات المدنية المنتخبة بالقوة أو فرض الحصار والمقاطعة الاقتصادية والسياسية أو دعم حركات التمرد المناهضة في حال تعرض المصالح الأمريكية للخطر أو لدى بروز النزعات والحركات الوطنية والقومية ذات الطابع الاستقلالي في تلك البلدان كما حصل ضد جواتيمالا والدومنيكان وكوبا ونيكاراجوا وهايتي وشيلي والسلفادور وبنما وغيرها من بلدان القارة الأمريكية الجنوبية وظلت الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ لأمد طويل بعلاقات وثيقة مع الأنظمة الديكتاتورية وجنرالات الجيش والأمن في معظم تلك الدول تحت يافطة التعاون المشترك في مكافحة الخطر الشيوعي.
الدور الذي مارسته الإدارات الأمريكية المتعاقبة في دعم وإسناد الأنظمة الديكتاتورية والتسلطية تعدى أمريكا اللاتينية ليشمل عملياً بلدان العالم الثالث قاطبة، ففي القارة الآسيوية لم يعد خافياً الدعم الذي قدمته المخابرات المركزية الأمريكية للانقلاب الدموي الذي قاده الجنرال سوهارتو في أندونيسيا والذي ذهب ضحيته مئات الألوف من القتلى والمعتقلين، إلى جانب دعمها السابق للأنظمة الديكتاتورية في الفلبين وكوريا الجنوبية وتايلند وفيتنام الجنوبية وباكستان وتركيا، ومسؤوليتها المباشرة عن الإطاحة بحكومة مصدق في إيران، ودعمها اللامحدود لنظام الشاه رضا بهلوي.
ولم تتردد في خوض غمار حربين مدمرتين في كوريا وفيتنام منعاً للوحدة القومية. والأمر ذاته ينطبق على إفريقيا حيث وقفت الإدارة الأمريكية بكل قوة إلى جانب الأنظمة الديكتاتورية والتسلطية ونظمت ومولت حركات التمرد والمعارضة القبلية المسلحة في أنغولا وموزامبيق وإثيوبيا، وساندت نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وعلى صعيد المنطقة العربية فإنها وقفت بقوة ضد تطلعات الشعوب العربية في الحرية والاستقلال والسيادة حين كانت تخضع تحت الاحتلال، ودعمت بلا حدود الغزو والعدوان الإسرائيلي المستمر على العرب، وغضها النظر عن ما يجري الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلة من أعمال همجية ومجازر وحشية بحق المدنيين العزل.
وتحت حجة مكافحة الإرهاب أقدمت الولايات المتحد الأمريكية على غزو احتلال أفغانستان والعراق لقد كتب آدم سميث (مفكر ومنظر اقتصادي بريطاني شهير) عام 1776م أن اكتشاف أمريكا واكتشاف طريق الهند الشرقية عبر رأس الرجاء الصالح هو أعظم وأهم حدثين في تاريخ البشرية ولا تستطيع حكمة البشر أن تتنبأ أية فوائد أو أية مصائب للبشرية ستنتج عن هذين الحدثين العظيمين من الآن فصاعداً.