نجيب الخنيزي
درج منظرو «الليبرالية الجديدة»، وطيلة أكثر من ثلاثة عقود، على الترويج لترسيخ المبادئ الليبرالية الاقتصادية/ وتحرير الأسواق (المال، السلع، الخدمات) وفقا لقوانينها الغابية المنفلتة من أية قيود، أو تشريعات حكومية تحد من تغولها.
الليبرالية الجديدة هي الطبعة المنقحة لليبرالية الكلاسيكية التي ظهرت منذ أواسط القرن الثامن عشر، وسادت طيلة القرن التاسع عشر، ومن ابرز منظريها آدم سميث وديفيد ريكاردو والتي تؤكدها فكرة «اليد الخفية» التي طرحها آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم» الصادر في 1776م، ويعتبر الكتاب من المؤلفات الاقتصادية الكلاسيكية، بل يعد بمثابة مرجع لليبرالية الاقتصادية، وخصوصا فكرة «اليد الخفية» التي تعتبر التجسيد الفلسفي لشعار «دعه يمر، دعه يعمل» التي تبنتها اللوثرية المسيحية في إطار سعيها لترسيخ أسس الإصلاح الديني، ومواجهة سلطتي النظام الإقطاعي والكنيسة، وصولا إلى التحرير المادي والروحي للفرد من تسلطهما.
تقوم فكرة « اليد الخفية» التي طرحها آدم سميث، على الإدارة الذاتية للسوق، بعيدا عن تدخل الدولة، لأن هناك وفقا لما يقول، توافقا طبيعيا بين المصالح المتضاربة في المجتمع، حيث يعمل أصحاب الأعمال والعمال والمستهلكون نحو تحقيق مصالحهم الشخصية، ولكن قوى السوق تضمن توافق تلك المصالح، فالعمل التجاري الحر يحقق ربحا من خلال ما يرغب المستهلك شراءه، كما أن «اليد الخفية» قادرة على مواجهة المشكلات والأزمات الاقتصادية الدورية للرأسمالية مثل البطالة والتضخم والعجز في ميزان المدفوعات، من خلال آليات السوق، فالبطالة من وجهة نظره تظهر نتيجة زيادة طالبي العمل عن الوظائف المتاحة، مما يؤدي إلى انخفاض أجور العمالة، وهو ما يتيح لصاحب العمل توظيف عدد أكبر من العمال، وبالتالي تتقلص البطالة. لذلك تكون قوى السوق قادرة على القضاء على البطالة بدون تدخل الحكومة، شريطة أن مستوى الأجور يكون مرنا مثل الأسعار الأخرى، أي قابلا للانخفاض والارتفاع، ولتحقيق اكبر قدر متاح من الربح (فائض القيمة) لا بد أن تكون التكلفة ( قوة القيمة) منخفضة، وفي نفس الوقت تمنع المنافسة إمكانية الحصول على أرباح مبالغ فيها. لأنه إذا كانت الأرباح عالية في مجال إنتاجي معين، فذلك سيشجع المنتجين على دخول ذلك المجال، فبالتالي سيزيد الناتج، وينخفض مستوى الأسعار والأرباح لأن الموارد الاقتصادية تتوجه في العادة نحو القطاعات الأكثر ربحية، وأن هدف السوق يتمثل في تلبية رغبات واحتياجات (وغالباً عليه أن يخلقها) المستهلك، مما يؤدي إلى رفع الإنتاجية، والاقتصاد الكلي.
فكرة «اليد الخفية» التي سيطرت طيلة القرن التاسع عشر، كانت محل نقد مرير من قبل الاشتراكيين في الدول الرأسمالية المتطورة، كما نقدها وعمل على تفكيكها كارل ماركس في مؤلفه الشهير «رأس المال» علما بأن منظري الاقتصاد الكلاسيكي البريطاني وفي مقدمتهم ريكاردو وآدم سميث كانوا أحد مراجعه الأساسيين.
الأزمة الاقتصادية الكبرى أو ما يعرف بالكساد الكبير، في فترة الثلاثينات من القرن المنصرم، الذي شهدته الولايات المتحدة، وامتد تأثيرها إلى دول القارة الأوربية، وعانى منها عشرات الملايين من الناس، وخصوصا العمال والطبقة الوسطى، إلى جانب إفلاس عشرات الآلاف من المصانع والمصارف والبنوك في تلك الدول، أدت إلى تراجع فكرة « اليد الخفية»، وخصوصا مع بروز نظام اقتصادي/ اجتماعي منافس إثر نجاح الثورة البلشفية (1917) في روسيا، وقيام المنظومة الاشتراكية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو ما مهد الطريق لظهور وتعميم النظرية « الكينزية» نسبة للورد جون كينز (1883 - 1946) في الولايات المتحدة ودول غرب أوربا.
النظرية الكينزية في جوهرها تقوم على التصالح ما بين أرباب العمل (الرأسماليين) والعمل (العمال)، تدخل الدولة في المجال الاقتصادي، لتنشيط الطلب الكلي، وتدخلها في الأجور والأسعار، وضمان الحد الأقصى الممكن للوظائف أو عند مستوى أقل من مستوى التشغيل الكامل، كما تتحمل الحكومة, مسؤولية مواجهة حالات الركود الاقتصادي, وذلك عن طريق زيادة الإنفاق، أو خفض الضرائب، وصولا إلى وضع يد الدولة على بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية كالمواصلات والاتصالات والمناجم والتعليم والصحة، من منطلق أن الاقتصاد عاجز عن تصحيح نفسه بنفسه، وذلك خلافاً للنظرية الكلاسيكية, التي تقوم على مبدأ عدم التدخل، ومفهوم «اليد الخفية».
لقد حققت «النظرية الكينزية» نجاحات ملموسة على صعيد عقلنة الاقتصاد، وضمان النمو المطرد في الإنتاجية والأجور والتوظيف، وقد استمر العمل بها في داخل الولايات المتحدة والدول الأوربية طوال أكثر من ثلاثة عقود، وحتى منتصف السبعينات من القرن المنصرم، وعبرت عنها ما سمي «دولة الرفاه» في أوروبا أو «الحلم الأمريكي» في داخل الولايات المتحدة.
غير أنه ومنذ نهاية السبعينات من القرن العشرين، بدأ يتصاعد من جديد الترويج لمبادئ ونظرية «الليبرالية الجديدة» في استعادة لمبادئ الليبرالية الكلاسيكية، ولكن في غياب المنافسة التي انتهت عمليا مع بروز الشركات الاحتكارية، وشركات متعددة ومتعدية الجنسية، التي باتت في ظل «العولمة» تتحكم في مفاصل اقتصادات الدول الرأسمالية المتطورة والبلدان المتخلفة على حد سواء، وقد عبرت الريغانية (1980 - 1988) في الولايات المتحدة، والتاتشرية (1979 - 1991) في بريطانيا عن هذا التوجه، الذي تزامن مع انهيار المعسكر الاشتراكي، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، واستطاع أن يفرض سيطرته الشاملة على الاقتصاد العالمي..
وللحديث صلة.