اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وحملات الأعداء وتجنيات وجنايات مَنْ يدور في فلك هؤلاء الأعداء من مَنْ جار على ذوي القربى، بقدر ما هي محنة بقدر ما تكون في طياتها منحة، حيث إنها تزيد من عزيمة المملكة وتصميمها على نصرة القضايا العربية والإسلامية، كما أنها تعتبر أحد الدوافع الدافعة إلى وحدة الشعب والتفافه حول قيادته، بفضل ما يثور ضد هذه الحملات والتجنيات من مشاعر نفسية وأحاسيس معنوية تفعل مفعولها عبر تكوين عوامل يغلب عليها طابع الانتماء الديني والوطني بالشكل الذي يؤدي إلى تقوية الروح الوطنية وتماسك الجبهة الداخلية وتعزيز الروابط الاجتماعية وزيادة متانتها على نحو يفوّت الفرصة على كل حاقد وحاسد، ويجعل من النقمة المرادة نعمة مستفادة.
وبما أن الانتماءات الفكرية على مختلف توجهات أصحابها، والأهداف التي ينشدها أربابها، أصبحت على المحك وداخل المعترك، فإن الانتماءات الدينية والوطنية والقومية لا تقبل المساومة، ولا يعادلها أي انتماء آخر مهما كانت بواعث هذا الانتماء الباعثة عليه، وعوامل الجذب الجاذبة إليه، فكيف بتلك الإنتماءات المذهبية المسيسة والفكرية المفلسة التي ما تفشت في مجتمع إلا جلبت له الوبال وسوء المآل.
وتأسيساً على ذلك فإن الأحداث التي تلقي بظلالها على المنطقة وإنعكاساتها الماثلة وتداعياتها المحتملة وموقف المملكة منها، كل ذلك فرض على المملكة أن تحسب لكل أمر حسابه وتضعه في نصابه إنطلاقاً من مسؤولياتها تجاه الدين والوطن والأمة والصدارة التي تحتلها في محيطها العربي والإسلامي، الأمر الذي يتطلب من المواطن مهما كانت النشاطات التي يمارسها والاهتمامات التي يهتم بها أن يتحمل واجبه الديني ويستشعر دوره الوطني، فلا يقول قولاً يدينه، ولا يفعل فعلاً يشينه، مقدراً دور الكلمة المنضبطة والمسؤولة التي يستفيد منها وتعود بالفائدة على دينه ووطنه، مع الابتعاد عن الكلام الذي يجلب الضرر، ويدخل في مفهوم التحريض والتجني والجناية على الذات وكما قال الشاعر:
وإذا جنايات الجوارح عدّدت
فأشدها يجني عليك لسان
وقال آخر:
ولفظة زائغة سبيلها
قد سلبت نعمة من يقولها
ومن السفه والطيش أن ينساق المواطن طواعية واستحساناً مع ما يضر دينه ووطنه، كأن يطلق العنان للسانه بالكلام متحدثاً أو كاتباً عن أمر من الأمور، فيقع في المحظور متجنياً على انتمائه الديني والوطني وجاعلاً من ذلك عرضة للاستهداف من قبل الآخرين، وهدفاً للمحرضين والمتطفلين والفضوليين، وذلك بسبب سوء استخدام الكلمة وتوظيفها فيما يضر بدلاً من استخدامها فيما ينفع والتسلح بها للدفاع عن الدين والوطن، كما يتعين أن تهديه فطرته إلى إدراك حقيقة التجني وتأثيرها السلبي على المجتمع وأن ذلك أمر لا يمكن قبوله في أي حال من الأحوال العادية، فكيف بما يضاف إلى التجني من جناية يمارسها البعض ضد دينه ووطنه في هذه المرحلة الحاسمة والدقيقة من تاريخ الأمة.
والتجني على الذات والجناية عليها يعني ذلك ظلم الأمة والإساءة إليها بسبب هذه الذات ومن خلالها، وهذا الأمر يأخذ صوراً عدة، منها الإساءة إلى الدين والنيل من الوطن نتيجة ما يقوله أو يكتبه بعض مَنْ يدعي الانتماء إلى تيارات فكرية معينة، مسوغاً لنفسه هذا الصنيع تحت شعار حرية التعبير تارة، وتبني الإصلاح تارة أخرى مستخدماً هذين المصطلحين في غير مكانهما وعلى عكس مدلولهما، كما يتضح ذلك من الإفتئات على عقيدة الأمة عبر ترديد ما يقوله أعداء الإسلام والحذو حذوهم في التجني والجناية على عقيدة الأمة التي هي أغلى ما تملك، حتى أن بعض هؤلاء القوم وصل به الافتراء على الدين والإساءة إليه إلى العزف على كلمة الوهابية مثلما يعزف عليها الأعداء، مفترياً عليها ومتهماً أياها بما ليس فيها، تلك الكلمة التي يطلق مصطلحها مجازاً على عقيدة السلف الصالح نسبة إلى الحركة التصحيحية ودعوة التجديد الإصلاحية التي دعا إليها المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وهذه العقيدة اقتضت الحكمة الإلهية ان يُقيّض لها مُجدّداً ومصححاً كلما درست واعترى منهجها شيئاً من الأخطاء البشرية والضلالات الفكرية.
كما أن ما يتعرض له القائمون على هيئة الحسبة من إساءات ويوجه لهم من إتهامات من قِبَل بعض المحسوبين على الأعلام يمثل وجهاً آخر من التجني على الأمة والجناية عليها من داخلها، ومحاولة لتقليص دور هذه المؤسسة التي تأمر بالخير إذا ما تُرك وتنهى عن الشر إذا ما فُعل عبر رسالتها الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ذات الارتباط المباشر بإصلاح السلوك المجتمعي من خلال إشاعة الفضائل ومحاربة الرذائل، بفضل تخليص المجتمع من أدران المعاصي وآفات التحلل الخلقي والتفكك الاجتماعي، وما لذلك من مردود إيجابي على استقرار الوطن واستتباب الأمن الداخلي والسلم الأهلي.
ومن الجور ان ثمة مَنْ ينكر على أهل الحسبة إنكار المنكر ولا يرى لهم في فعل المعروف أثر يذكر، بسبب وقوعه تحت تأثير الانتقاد الهدام، حيث تظهر أمامه السيئات مضخّمة ومجسمة، بينما تحجب عنه دخيلة الاستهداف رؤية الحسنات، وعادة الانتقاد الهدام ما سادت في مجتمع إلا دفعته إلى الظلم وحجبت عنه الخير، وجلبت له الشر، وجعلت جوه يتسمَّم بسموم الضغينة والفرقة ويختنق بغبار الكراهية والبغضة على نحو يفضي بأفراده إلى الجدل وقلة العمل مع التجني على الذات والجناية عليها بدلاً من إنصافها والدفاع عن حقوقها.
والواقع أن الخطاب الديني في كل دولة يمثل لغة التواصل داخل مجتمع هذه الدولة، وبفضل هذا الخطاب يتم تبادل العلوم النافعة والشرائع الناجعة بين أفراد المجتمع ومكوناته على هيئة خطاب ديني رسمي يشمل مختلف المناهج والمضامين ذات الطابع الديني التي تُعنى بها المؤسسات الدينية والتربوية، ومن هذا المنطلق فإن الخطاب الديني الرسمي للملكة ينبع من دستورها، وتتمحور حوله جميع أمورها، بوصف هذا الخطاب يجسد منهجاً دينياً وإطاراً تربوياً تنصهر في داخلهما ومن حولهما جميع فئات المجتمع على اختلاف مشاربها وتنوع مذاهبها في وحدة اجتماعية واحدة وعلى نهج واحد، بحيث يشكل ذلك مرجعية تجمع بين الثوابت والمتغيرات ضمن خطاب متجدد ومنسجم مع روح العصر ولزوميات الحياة حيث تحرص الدولة على فرضه وتطبيقه عبر مؤسساتها المختصة على النحو الذي يؤلف بين أطياف المجتمع، وينمى في أفراده الفضائل والقيم الدينية التي تقف في وجه الفتن وترفض الفرقة وتنأى بالمجتمع عن الغلو والتطرف إلى الوسطية والاعتدال.
ورغم اعتدال الخطاب الرسمي وبعده عن التطرف والغلو إلا أن داعية ما قد يغرد خارج السرب متبنّياً خطاباً غامضاً يتأرجح بين الإفراط تارة والتفريط تارة أخرى، كما أن هناك مَنْ قد يُنصّب نفسه مفتياً وهو ليس مخولاً بأن يقوم بهذه المهمة، وهذا التصرف من قبل الاثنين يعتبر ضرباً من الجناية على الذات ومدعاة لخروجهما عن حدود الضوابط الضابطة للدعوة والقيود الحاكمة للفتوى بصورة ذات تأثير سلبي على الخطاب الديني الرسمي للدولة، وما يعنيه ذلك من حصول مؤثرات سلبية على خط الخطاب المرسوم واتجاهه المعلوم.
والمؤسسات الدينية في الدولة إذا ما قصّرت في عملها وأخفقت في أداء ما هو مطلوب منها حل محلها غيرها حيث إن المسؤول عندما يتقاعس عن أداء ما يقع ضمن صلاحيته، وتمليه عليه مسؤوليته فكأنه تنازل لمَن دونه ليقفز على هذه الصلاحية فضلاً عن ما يتركه هذا التقصير من فراغ يتحرك فيه الآخرون، الأمر الذي يؤدي إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، والمقصر مضيع بتقصيره عن الحد والمغالي مضيع بتجاوزه الحد، وكما قال الشاعر:
إن الفقيه إذا غوى وأطاعه
قوم غووا معه فضاع وضيعا
مثل السفينة إن هوت في لجةٍ
تغرق ويغرق كل ما فيها معا