د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يؤدي التدريب دوراً مهماً في تطوير القدرات، واكتساب المهارات الجديدة، مما يسهم في الدفع بالعملية الإدارية والتعليمية نحو مزيدٍ من التقدُّم والتطور، ولست هنا في مقام بيان هذه الأهمية، فذلك أمرٌ لا ينكر، غير أنَّ الملاحظ هو انحراف هذا النشاط عن مساره، واستغلاله الواسع بشكلٍ بشع، مما أدى إلى تشويه سمعته، والسخرية ممن يمارسه، والإشفاق على المتدرب الذي أنفق الأموال رغبةً في الإفادة من مهارات مدربه المزعوم.
والحقُّ أنَّ هذه القضية استشرت في الآونة الأخيرة، وعمد تجار الأوهام إلى ضرب ضربتهم الكبرى من هذا الوهم، ومحاولة الحصول على النصيب الأكبر من هذا التدريب الذي لا يُسمن المتدربين ولا يغنيهم من جوع، فانتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي كثيرٌ من الإعلانات التي تبشِّر بدوراتٍ تدريبية مختلفة في الموضوع المكان والزمان والمدة والقيمة المالية، ورغم ضحالة هذه الموضوعات وانعدام الخبرة فيها لدى المدرب، وارتفاع القيمة المالية، إلا أنك تتفاجأ بعددٍ لا بأس به من المخدوعين يتسابقون على التسجيل، مبتهلين إلى المولى عز وجل ألا تنقضي المقاعد، فيفوتهم شرف الالتحاق بهذه الدورة التي ستفتح لهم الآفاق! وتضيء لهم المستقبل! وتحلُّ لهم كثيراً من الإشكاليات التي كانوا يواجهونها في حياتهم العادية والعلمية. وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع المقلق ينبغي أن أستبعد في هذا السياق الدورات العلمية والمهنية الحقيقية التي تساعدك على اكتساب مهارةٍ أو تطويرها، كالدورات الخاصة بتعليم برامج التصميم الرقمي، ودورات الحاسب الآلي، واللغة الإنجليزية، والخياطة، وما شابه ذلك، فهذه دوراتٌ خارج حسابات هذا المقال، إذ لا يمكن أن يقيمها إلا متخصص فيها، والفائدة منها في الغالب متوفرة، والحاجة إليها حقيقيةٌ وحتميةٌ للمتدرب، والعائد منها مطلوبٌ على المستوى العملي، لأجل هذا فكل ما سأطرحه في هذه السطور من إشكالياتٍ لا يتصل بهذا النوع من التدريب.
إنَّ هذا المقال يوجِّه سهام نقده خصوصاً إلى تلك الدورات التي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها سخيفة، لا يملك المرء أمامها إلا أن يعجب من كيفية السماح بإقامتها، وجرأة المدرب الذي زعم خبرته فيها، وأوهم المجتمع بأنه سيحقق من خلالها أهدافاً تعجز عنها الدول، أما العجب الأكبر فهو حين ترى العقلاء - أو هكذا أحسبهم - يتسابقون على الالتحاق بها، بل يفتخرون بأنهم حصلوا على شهادةٍ خاصةٍ بها.
وإلا فكيف تفسِّر وجود دوراتٍ مثل: إدارة الوقت، العادات السبعون، كيف تحتوين زوجك؟ كيف تتفوق دراسياً؟ وكيف تكسب الأصدقاء؟ مهارات البحث العلمي، وكيف تقشر البرتقال؟ هل المرأة إنسان؟ سخافات البرمجة العصبية، التغلب على المخاوف، كيف تتنفس بعمق؟ مهارات النجاح، كيف تعيش سعيداً؟ دورات تحسين القراءة أو تسريعها، دورات قانون الجذب - أو الكذب الأمر سيان -، أخرج العملاق الذي بداخلك، أساسيات الإبداع، كيف تحل مشكلاتك في الحياة؟ كيف تكون غنياً في خمس خطوات؟ لغة الجسد... وقس على ذلك الدورات التي تتصل بالإدارة، من أمثال: كيف تتعامل مع مديرك؟ كيف تكسب زملاءك في العمل؟ دورات تحسين الإنتاج، الإدارة الناجحة، كيف تكون راضياً عن وظيفتك؟ مهارات القيادة... وهلم شرا.
لقد أصبحت الدورات التدريبية من أمثال هذا النوع سبيلاً لتحقيق المكاسب المالية، المال ولا غير المال، من خلال الضحك على الذقون، والعزف على حاجات الناس، واستغلال رغبتهم في تطوير أنفسهم، وتحقيق أهدافهم، وحرصهم على إنجاز شيءٍ يفتخرون به في حياتهم، وهنا تتلقفهم هذه الدورات المتهافتة بعنوانات برَّاقة وأهدافٍ رنَّانة، زاعمةً أنها المنقذ الوحيد الذي سيخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الفشل إلى سعة النجاح، وفي النهاية لا نرى غير تكاثرٍ عجيبٍ لهؤلاء المدربين يقابله ضعفٌ وفشلٌ ذريعٌ للمتدربين المساكين الذين لا يلحظون أيَّ تطورٍ ملحوظٍ فيما أرادوه من خلال التحاقهم بهذه الدورات.
وأظنُّ أنَّ مثل هذه الظاهرة العجيبة في بلدنا الحبيب لم تلقَ هذا الانتشار السريع في مجتمعنا إلا بوجود عددٍ من الأسباب التي مهَّدت لها، وخلقتْ لتكاثرها البيئة الخصبة، من أهمها إهمال الجهات المسؤولة لمحاسبة كل من يروّج لمثل هذه الدورات، والتكاسل عن ملاحقة هؤلاء الأدعياء الذين يبيعون الأوهام للضعفاء، وأعتقد أنَّ هذه المسؤولية تتحمَّلها ثلاث جهاتٍ حكومية: وزارة التعليم، ووزارة الإعلام، والمؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني، أقول هذا وأنا أعي تماماً أنَّ هذه الجهات لم تهمل وتتكاسل فحسب، بل إنها تصرِّح لهذه الدورات ومنح (مهرِّجيها) رخصاً لبيع الوهم على المساكين، وهنا لا تملك إلا أن تستحضر قول الشاعر:
إذا كان ربُّ البيت بالدفِّ ضارباً
فشيمةُ أهلِ البيتِ كلهم الرقصُ
وهذا يقودني إلى سببٍ آخر من أسباب هذه الظاهرة المزرية التي ما زالت تسيء إلى وطننا ومجتمعنا، وهو سهولة الحصول على الرخصة «التدريبية» - أو التجارية سمّها ما شئت - حيث يلتحق صاحبنا العبقري بدورةٍ تُعنى بإعداد المدربين، ولأنَّ هذه الدورة تؤهلك لبيع الخزعبلات على فقراء العقل فلا غرو أن تكون قيمة التسجيل فيها مرتفعةً قد تتجاوز 3000 ريال، لكنَّ صاحبنا لا يستخسر فيها هذا المبلغ؛ لأنه يثق أنه سيعود عليه أضعافاً مضاعفةً حين تتنزَّل عليه الفتوحات الإلهية، ويُسمح له - من خلال هذه الشهادة التي اشتراها بالمبلغ السابق - أن يُقيم دوراتٍ تدريبيةً لغيره من الحالمين بالنجاح من أقصر الطرق، ثم يصبح هو الآخر مدرِّباً للمدربين، ويستمر مسلسل الخداع والتضليل، ويبقى هذا المتدرب (الأفدغ) هو المتضرر الوحيد من هذه المسرحية، ويكتشف في وقتٍ متأخرٍ جداً أنه اشترى بأموالٍ طائلةٍ شهادةً يستحي الجدار من أن تُعلَّق عليه.