د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
كيف كان ينظر العرب الأوائل إلى (الإبداع الفني)؟ وما مفهومه الذي استقرَّ في أذهانهم للوهلة الأولى؟ وعلى أيِّ شيءٍ كان يعتمد المبدع في إنتاجه الأدبي والفكري في اعتقادهم؟ وكيف كان تصورهم لمفهوم هذه العملية الفنية؟ ثم هل كان هذا التصور مقنعا؟ وإلى أيِّ حدٍّ كانوا على قناعةٍ به وتصديقه؟ وهل بقي هذا المفهوم أم تطوَّر بتطوُّر العقل العربي؟
لا أزعم أنَّ هذا المقال سيجيب عن كلِّ هذه التساؤلات، فمثل هذه القضايا النقدية الفكرية تحتاج إلى دراساتٍ طويلةٍ ومعمَّقة، غير أنَّ ما لفت انتباهي في هذا القضية توقُّف بعض النقَّاد عندها، ودراستها بصورة مفصَّلة؛ إيماناً بأهميتها، وانطلاقاً منها إلى تقديم فهمٍ صحيحٍ وناضجٍ للإبداع الفني، والكيفية التي يتمُّ من خلالها إنتاج هذه العملية الأدبية، وهو ما سأحاول أن أوجزه في هذه السطور.
إنَّ الناظر في التراث الأدبي والنقدي يلحظ أنَّ العرب القدامى بشكلٍ عام كانوا يتصوَّرون أنَّ مصدرَ (الإبداع الفني) ما هو إلا مجموعةٌ من القوى الغيبية التي تُوجده أحيانا، حيث تكون هي المبدع أصلا، ولا يكون للمرء أيُّ دورٍ في هذه العملية سوى النقل، أو تسهم في إيجاده أحياناً أخرى، إذ يمكن حينها للمرء أن يكون مشاركاً في ذلك. وهذه القوى الغيبية عند العرب نوعان: قوى محدَّدة، حرصوا على تسميتها ووصفها، بل تعاملوا معها بوصفها عالماً مستقلاً له خصائصه، ومن أبرز تلك القوى (الجنُّ) التي تصوروها أجساماً هوائيةً قادرةً على التشكُّل، ولها عقولٌ وأفهامٌ وقدرةٌ على الأعمال الشاقة، أما أشهر الأسماء المتصلة بهذه القوى فهو (الغول) الذي ذكر الجاحظ أنه «اسمٌ لكلِّ شيءٍ من الجن، يعرض للسفَّار، ويتلوَّن في ضروبٍ من الصور والثياب، ذكراً كان أو أنثى، إلا أنَّ الأكثر على أنه أنثى»، ويضيف المسعودي أنَّ (الغول) يظهر للخواصِّ من الناس، فيخاطبونها وربما ضيَّفوها، ولعله كان يقصد بالخواص المتميزين بقواهم العقلية والروحية، أو أولئك المهيئين للاقتناع بوجود هذه القوى!
وللجنِّ عند العرب -كما يذكر الجاحظ- تسمياتٌ باعتبارات، فإن كان سالماً قالوا (جني)، وإن أرادوا به ممن سكن مع الناس قالوا (عامر)، وإن كان ممن يعرض للصبيان فهم (أرواح)، فإن خبث أحدهم فهو (شيطان)، وإن زاد على ذلك في القوة فهو (عفريت)، ومهما يكن فإنَّ اسم (الشيطان) ظلَّ الأساس والأكثر حضوراً في مفهوم (الإبداع الفني)، ثم إنه اكتسب معنى جديدا بعد الإسلام، وهو إغراء الناس بالخطيئة، ولهذا نجدهم يفرِّقون بين (الجنِّ) و(الشيطان)، فالجنُّ اكتسبوا عمل (إبليس) في الإغراء بالخطيئة، غير أنه يمكن للمرء تحويلهم إلى أن يأمروه بالخير، فهم أقلُّ قدرةً من الشيطان الذي يملك قدراتٍ عديدة، أما (الأبالسة) القرناء فلا يفعلون سوى الوسوسة بالشر!
أما النوع الثاني فهي القوى غير المحددة، كـ(الهواتف) التي تهتف بصوتٍ مسموعٍ وجسمٍ غير مرئي، ومن ذلك (الرئي) الذي عدَّه الجاحظ نوعاً من الجن، وهو ما يظهر ويُرى، وغيرها من القوى التي يُعتقد أنها جن تظهر بطرقٍ مختلفةٍ غير صريحةٍ في الدلالة عليهم، فيظهرون كصوتٍ فقط، أو يبدون للعيان، وحينها قد يكون مظهرهم غريباً بأجنحتهم، أو كالحيات، أو كالبشر، أو في صورة نصف إنسان، أو وسواسٍ غامضٍ يصيب النفس، وهو في كلِّ هذه الصور قوى غامضة غير واضحة، تختلط بالحيوان؛ كالحية أو الهرة أو الحمار.
أما كيف يردُّون عملية (الإبداع الفني) إلى هذه القوى الغيبية فقد استخدموا لذلك بعض المصطلحات التي تعبِّر عن هذه الفكرة، مثل (الإلقاء) الذي يعني أنَّ هذه القوى تجمع الشعر في قبضتها، وتلقيه في فم الشاعر إلقاءً لينطق به، ويسمُّون ذلك حيناً (إلهاما) وحينا (وحيا)، وإذا حمي الشاعر سمّوه (المس) أو (اللمم)، ويرون أنَّ الجنَّ الذي يفعل ذلك (تبع) أو (صحبة) أو (قران)، وحيناً يسمُّون ذلك (التأييد) أو (الإعانة)، بمعنى أنَّ المبدع مؤيدٌ أو مُعانٌ من هذه القوى الغيبية، ثم ظهرتْ مصطلحاتٌ أخرى ربما كانت أكثر تطوراً؛ كـ(الكشف) و(المعاينة)، حيث يتكشَّف للشاعر عالمٌ من المعاني يعاينها ويعانيها، ويقبس منها أو يرمز إليها. ولعلَّ أهم الروايات التي تشير إلى وجود ظاهرة رد الإبداع الفني إلى القوى الغيبية ما رواه الجاحظ معلقا على البيت:
بنت عمرو وخالها مسحل الخير
وخالي هميم صاحب عمرو
إذ يقول: «فإنهم يزعمون أنَّ مع كلِّ فحلٍ من الشعراء شيطاناً، يقول ذلك الفحل على لسانه الشعر، فزعم البهراني أنَّ هذه الجنية بنت عمرو شيطان (المخبَّل)، وأنَّ خالها مسحل شيطان (الأعشى)، وذكر أنَّ خاله هميم وهو همام، وهمام (الفرزدق)، وكان غالب بن صعصعة إذا دعا الفرزدق قال يا هميم،... و أما قوله صاحب عمرو فكذلك أيضا يقال إنَّ اسم شيطان الفرزدق (عمرو)».
أما الثعالبي فقد وقف عند قول جرير:
إني ليُلقي عليَّ الشعرَ مُكتهلٌ
من الشياطين إبليسُ الأباليس
فيقول: «وكانت الشعراء تزعم أنَّ الشياطين تلقي على أفواهها الشعر، وتلقِّنها إياه، وتعينها عليه، وتدَّعي أنَّ لكلِّ فحلٍ منهم شيطاناً يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود»، ثم قال: «وقد بلغ من تحقيقهم وتصديقهم بهذا الشأن أن ذكروا لهم أسماء، فقالوا إن اسم شيطان الأعشى (مسحل) واسم شيطان الفرزدق (عمرو) واسم شيطان بشار (شنقناق)»، كما روي أن لحسان بن ثابت شيطانا اسمه (شيصبان).
بل إنَّ بعض الروايات في التراث العربي تشير إلى أنَّ العرب كانوا ينظرون إلى (القوى الغيبية) بوصفها تفسيراً للقدرة الشعرية في جذورها، وليس تفسيراً لنشأة القصيدة فحسب، فقد روى القرشي في الجمهرة أنَّ جانَّاً قدَّم لرجل لبناً مُرَّاً فكره طعمه، فقال له الجني: أما إنك لو كرعته في بطنك لأصبحت أشعر قومك!
ويروي الأصفهاني عن مولاة ابن جامع قولها: «انتبه مولاي يوماً من قيلولته، فأمر بأن يُدعى ابنه هشام على عجل، فلما جاءه قال له: أي بني؛ خذ العود، فإنَّ رجلاً من الجنِّ ألقى عليَّ في قائلتي صوتاً فأخاف أن أنساه، فأخذ هشام العود وتغنَّى ابن جامع عليه رملاً لم أسمع أحسن منه»، وفي رواية أخرى أنَّ «الربيعي خطر له لحنٌ لبيتين من الشعر، فلما بلغ المدينة وجد رجلاً يغني ذات اللحن، ولم يكن الربيعي في طريقه قد أسمع اللحن أحدا، فقال: ما أرى إلا أنَّ الجنَّ أوقعته في لسانه».
واللافت في خبري الأصفهاني أنَّ فيهما توظيفاً للمفهوم الأولي في تفسير ظاهرة (الإبداع الفني)، حيث نجد في الأول أنَّ اللحن أُلقي على ابن جامع في نوم القيلولة، وفي هذا جمع بين فكرتي (الحلم) و(الإلهام)، وفي الثاني يفسِّر الربيعي ظاهرةً أخرى نسميها اليوم (توارد الخواطر) بفكرة (القوى الغيبية) التي أوقت اللحن في لسانين، ثم إنَّ في الخبرين تعرُّضاً لفنٍّ مختلفٍ عن الشعر وهو (الموسيقى)، وهو ما يدلُّ على أنَّ هذا المفهوم الأولي قد انتظم الفنون العربية شعراً ونثراً وموسيقى.
إنَّ مثل هذه النصوص والروايات تشير إلى أنَّ العرب كانوا يتجاوزون النظر إلى هذه القوى الغيبية بوصفها مصدراً للإبداع إلى قدرتها في الإسهام في تفسير الملاحظات النقدية بجودة الشعر ورداءته، وبتفاضل الشعراء في الجودة، وهي فكرةٌ يمكن الدخول من خلالها إلى القول بأنَّ هذا المفهوم الأولي للإبداع يستحق أن يكون موضوعاً رئيساً من موضوعات النقد القديم؛ لأننا أمام أفكارٍ نقديةٍ هامةٍ تعالج ظواهر (الإبداع الفني)، وظواهر القصيدة العربية وقضاياها، كتعدُّد اسم المحبوبة؛ ولهذا دعا بعض المعاصرين إلى إعادة النظر في فكرة (شياطين الشعراء)، والتعامل معها بوصفها ممارسةً نقديةً أصيلةً بدلاً من الحكم على العصر الجاهلي بأنه عاطلٌ من الفكر النقدي النافع. وعلى كلٍّ فإني أرى أنَّ فكرة ردِّ (الإبداع الفني) إلى (القوى الغيبية) تشير بوضوح إلى أهمية هذه العملية عند العرب، الذين كانوا يفاخرون الأمم بفصاحتهم وبلاغتهم، ولعلهم كانوا يحاولون من خلال إيمانهم بهذا التصور وتعزيزه منحَ أبعاد عملية (الإبداع الفني) مزيداً من الأهمية والخصوصية، وإعطائها مسحةً من الغموض ونوعاً من الإعجاز، وكأنهم أرادوا أن يؤكدوا أنَّ إبداع النصوص ليست متاحةً لأي أحد، بل هي محكومةٌ بقوى غيبيةٍ لا تعرض إلا للخواص، وهو ملمحٌ من ملامح عنايتهم الفائقة بالإبداع، وإجلالهم الكبير للفنِّ القولي الجميل.