د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
نظَّم قسم الجغرافيا بجامعة أم القرى محاضرة بعنوان (التنمية الزراعية وعلاقتها بالبيئة في دولة المغرب) قدمها الدكتور عبد الله العوينة رئيس الجمعية الوطنية للجغرافيين المغاربة في 2/3/2016، وجرى على هامش النقاش تعليق أحد الزملاء بأن الجنوب الغربي من السعودية لم يصمد السكان البقاء في تلك القرى، بينما الغالبية العظمى من السكان هاجروا إلى المدن، لكن في المقابل يُشكّل الإنتاج الزراعي في القرى المغربية إنتاجاً أساسياً.
في الحقيقة أن المقارنة بين التنمية الزراعية بين الجنوب الغربي من السعودية والمملكة المغربية في جبال أطلس، يبدو أنها ظالمة، بسبب أن الطفرة النفطية في السعودية غيّرت من سياقات الإنتاج في السعودية ليس فقط في القطاع الزراعي بل في كافة القطاعات، وجعلتها هامشياً مقارنة بعوائد النفط، بسبب غياب التخطيط الواعي المدرك بسبب غياب الكفاءات في ذلك الوقت.
حيث إن الإنتاج الزراعي في تلك المنطقة لا يمثّل شيئاً بالنسبة لعوائد النفط الهائلة والضخمة، ولم يدرك المخططون أن الإنتاج الزراعي في المنطقة الجنوبية الغربية إنتاج مستدام، على عكس الإنتاج في بقية مناطق السعودية الذي يستنزف المياه، واعتمدت تلك الزراعة على عوائد النفط، بينما كان من الأولى توجيه تلك الاستثمارات إلى الجنوب الغربي من السعودية لتنمية سبل الزراعة من أجل وقف الهجرة منها إلى المدن استعداداً لمرحلة ما بعد النفط، من أجل تنويع مصادر الدخل وتوفير فرص للتوظيف.
ما حدث في السعودية من تهميش الإنتاج الحقيقي، هو مثلما حدث للأزمة المالية العالمية التي انطلقت من الولايات المتحدة عام 2008، حيث بلغت المشتقات المالية عشرة أضعاف الناتج القومي في ذلك الوقت التي كانت على حساب الإنتاج الحقيقي، ولا يزال العالم يحاول الانتقال إلى الإنتاج الحقيقي، ولكنه لا يزال متعثراً بسبب إدمان النظام الاقتصادي العالمي على المال السهل.
لذلك تحاول دول العشرين التي اجتمعت في شنغهاي والتي لم تتمكن من الأخذ بالاقتراح الذي يهدف إلى القيام بإجراء المزيد من السياسات المطبقة لدى أكثر الدول من الأهمية التنظيمية، كما أنها لم تأخذ كذلك باستخدام كل الأدوات السياسية المتاحة من نقدية ومالية وهيكلية، بل اتجهت فقط إلى الميل نحو الاعتماد المفرط على سياسات البنوك المركزية المستنفذة نظراً لحجم المخاطر العالمية التي تواجه الاقتصاد العالمي.
سوف يستمر النمو الاقتصادي العالمي في المعاناة، بسبب فشل الرهان في تحقيق المساواة بين مكونات الشعب الواحد من حيث الدخل والثروة والفرص، ما يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة، حيث إن النمو الاقتصادي لا يزال دون المطلوب، فمثلاً في الولايات المتحدة متوسط الثروة المنزلية للعائلات السوداء يصل إلى 11 ألف دولار فقط، وفقاً لتقرير صادر عن مركز بيو البحثي عام 2014، انخفض تقريباً بواقع النصف جراء الانهيار المادي ولم يتعاف حتى الآن نتيجة السياسات التجارية المدمرة بعدما حصلت البنوك على عمليات إنقاذ، ولكنها لم تطل المتضررين من أزمة الرهن العقاري.
بينما في السعودية اقتصر توجيه استثمار عوائد النفط من قِبل الدولة في استثمارات رأسمالية قد تكون تتناسب مع مرحلة انخفاض أعداد السكان، لكنه استثمار لا ينتج وظائف ولا حتى قيمة مضافة عالية، بسبب أنها صناعات رأسمالية لصناعات أساسية، لكنها تُعتبر نقلة نوعية في ذلك الوقت، لكنها لم يعقبها مراحل مكملة، فيما تم تركيز أصحاب الثروات من المواطنين على استثمار تلك العوائد في المضاربة على الأراضي كملاذ آمن وكاستثمار وحيد نتيجة غياب قنوات الاستثمار، حتى أصبحت تلك الأراضي التي تحتجز تلك الأموال في أصول ثابتة غير منتجة عائقاً اليوم في معالجة مشكلة الإسكان، ما جعل كل خطط تنويع مصادر الدخل منذ الخطط التنموية الأولى حتى التاسعة تفشل في تحقيق هدف تنويع مصادر الدخل.
في المقابل اعتمد القطاع الخاص كذلك على الدولة مثله مثل المواطنين، لكن الخطير عندما يستغل القطاع الخاص غياب أساسيات توطين الوظائف، مثل غياب حماية الأجور، أو وجود حد أدنى للأجور حتى للعمالة الوافدة لحماية المجتمع من العمالة الوافدة التي تحصل على أجور ضئيلة لا تتناسب مع تكاليف المعيشة المحلية، فتتجه إلى تعويض تلك الأجور الضئيلة بأموال قد تحصل عليها بطرق غير مشروعة، تكون على حساب أمن المجتمع، بذلك يكون القطاع الخاص مسؤولاً عن انتهاك أمن المجتمع بسبب إعطائه الوافدين أجوراً لا تتناسب مع تكاليف المعيشة المحلية مستغلاً عدم وجود قوانين تحمي الأجور سواء كانوا وافدين أو وطنيين على غرار الدول المتقدمة.
فمثلاً اعتماد القطاع الخاص على العمالة الخدمية الرخيصة التي تحصل على أجور زهيدة لا تتناسب مع تكاليف المعيشة المحلية كانت السبب الرئيس في عدم قدرة العمالة الوطنية على منافستها، ما يجعل القطاع الخاص يوظف الشباب والشابات السعوديات برواتب متدنية، مع العمل لفترات طويلة تخالف نظم العمل الدولية التي تقفل أبواب المتاجر لديهم عند الساعة الخامسة أو السادسة مساء، بينما لدينا يقفل السوق عند الساعة الحادية عشرة مساء، لكن ينتهي عمل الموظف والموظفة عند الساعة الثانية عشرة ليلاً وبأجور زهيدة فقط من أجل حصول الشاب أو الشابة على شهادة خبرة، من أجل ضمان الحصول على عمل أفضل، مما يُعتبر استغلال القطاع الخاص لظروف اجتماعية بسبب وجود البديل من العمالة الوافدة الرخيصة.
خصوصاً فئة الشابات التي تصل نسبة البطالة لديهن عند 38 في المائة وقد تكون أعلى من ذلك بسبب ضيق الفرص الوظيفية لديهن على عكس فرص الشباب الذين يمتلكون مرونة في الذهاب للوظائف حتى ولو كانت بعيدة، بينما الظروف الاجتماعية للشابة تمنع ذهابها لأماكن بعيدة أو العمل في بيئات مختلطة، بجانب ذلك يستغل القطاع الخاص غياب أساسيات التوظيف بخلاف الإجراءات التي تتبعها وزارة العمل تصب من أجل إرضاء القطاع الخاص، لذلك لن تكون مجدية على المدى البعيد.
فقد اكتفت وزارة العمل القيام بحلول جزئية كالسعودة مثلاً التي تتسبب في السعودة الوهمية الخالية من الأمان الوظيفي لكلا الطرفين، كل هذا يؤدي إلى ثراء فاحش للقطاع الخاص على حساب المجتمع السعودي وعلى حساب أبنائه ويؤدي إلى ظهور طبقة وسطى ضعيفة، وهي تحديات تختلف عن التحديات التي يواجهها الاقتصاد العالمي، وخصوصاً في الولايات المتحدة كنموذج، حيث نرى في اليابان التي تشهد تراجعاً، والصين تعاني وطأة الركود في أحسن الأحوال، وروسيا والبرازيل في طريقهما نحو الكساد، ويظل من غير المؤكد ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتمكن من أن تظل جزيرة من النمو البطيء في عالم مضطرب.
إلى جانب ذلك هناك خطر المتاجرين بالتأشيرات التي تسببت في تكدس العمالة في السوق السعودي تفوق حاجته، مستثمرين نظام الكفالة الذي يشجع هؤلاء على التكسب من وراء تلك التأشيرات نتيجة غياب مرونة انتقال العمالة، وإن كانت موجودة ولكنها محدودة بأن يسمح للوافد الانتقال إذا كانت الشركة في القائمة الحمراء، أو لم يحصل العامل على رواتب لمدة ثلاثة شهور، ما جعل تلك العمالة تتجه إلى اللجوء إلى استغلال تلك الفوضى السائدة التي لا تتناسب مع أساسيات سوق توطين العمالة، واللجوء إلى ممارسة التستر، واحتكار مهن يمكن أن تصبح مخزناً للوظائف في كافة دول العالم، كتجارة التجزئة والأعمال الخدمية الأخرى.
لقد أثبتت الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام 2008 أن أفكار المدرسة الكلاسيكية القائمة على مبدأ الحرية الاقتصادية، ومبدأ دعه يعبر دعه يمر، ومقدرة الأسواق على التشغيل الكامل من خلال آلية السوق واليد الخفية، جميعها أفكار غير قادرة على استعادة الأسواق توازنها، وسبق أن فشلت المعالجة في زمن الكساد الكبير في الولايات المتحدة من عام 1929- 1933، وعارضها كينز بشدة لأن أفكار المدرسة الكلاسيكية نموذج للاقتصاد الجزئي، وجاء كينز في المقابل بفكرة الطلب الكلي الفاعل الذي يحدد حجم كل من التشغيل والإنتاج والدخل، وعدم ضرورة وصول الاقتصاد إلى التشغيل الكامل، يُسمى بنموذج الاقتصاد الكلي.
بسبب أن النظرية الكلاسيكية تعتقد أن العرض يخلق طلباً مساوياً له، بينما كان العرض وفيراً زمن أزمة الكساد في مقابل طلب شبه معدوم، ويعتبر منظرو المدرسة الكلاسيكية أن الطلب على النقود طلب مشتق من الطلب على شراء السلع، لكن أضاف إليها كينز أنه يمكن أن تطلب النقود لذاتها بدافع المضاربة، لكن هذه الفكرة التي أضافها كينز مخالفة للنموذج الإسلامي، كما في حديث الأصناف الستة حيث قال صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد) أخرجه مسلم، الذي جعل حتى الفكر الكينزي يفشل في إيجاد حلول فيما يعرف بظاهرة الركود التضخمي (stagflation) بسبب أن صناعة التقنيات المالية التي ما زالت تواصل البحث عن الخوارزميات الفائقة، حيث أقر المجتمعون في قمة العشرين في شنغهاي بأن مزيجاً من السياسات المتبعة في كثير من بلدانهم يبقى من دون التوازن المطلوب والمنشود، بسبب حالة الاعتماد التي تعتمدها البنوك المركزية على الأموال السهلة.
بينما لدينا في السعودية العرض محدود، وقد يكون بعضه غير منافس للصناعات الأجنبية، أي أن القاعدة الإنتاجية ما زالت محدودة جداً، لأن القطاع الخاص لم يتمكن من الانفطام الثنائي (الدعم الذي يتلقاه من الدولة، واستغلال ظروف المجتمع نتيجة غياب أساسيات توطين الوظائف المعتمدة على الاقتصاد الكلي وليس الجزئي) باعتبار أن المعالجة الجزئية هي مرحلية ووقتية قد تحتاج إليها الدولة ولكن يجب أن تتزامن مع الحلول الكلية، لكن يبدو أن ضغوط القطاع الخاص، وتهديدها الدولة بنقل استثماراتها إلى خارج الوطن، جعل وزارة العمل تستجيب لضغوط القطاع الخاص، واستمرت في مجاملة القطاع الخاص على حساب الاقتصاد الكلي والمجتمعي، بينما في الغرب رضيت الدول بنقل الاستثمارات إلى الصين وجنوب شرق آسيا، ولكنها رفضت خفض الأجور، بل هي تدافع عن الأجور وتعتبرها أحد مؤشرات نجاح السياسة المالية والاقتصادية، بل وتدخل ضمن أجندة الساسة حتى يتم انتخابهم من قبل العمال بشكل خاص.
هناك تكالب عالمي على استثمارات الرساميل في الأراضي الزراعية، خصوصاً الرساميل الكبيرة والهاربة من بورصتي الأسهم والسندات في مسعى للتربح من استثمار الأرض على رقعة تمتد من كندا إلى إثيوبيا، فلماذا لا تتجه الاستثمار الوطنية في الاستثمار الزراعي في الجنوب الغربي من السعودية بعد توقف الإنتاج الزراعي للحبوب والعلف في بقية مناطق السعودية من أجل الحفاظ على الثروة المائية الناضبة باعتبارها مياهاً جيولوجية غير متجددة، لكن مثل المياه الموجودة في الجنوب الغربي من السعودية، حيث يصل التساقط حسب المناطق ما بين 200 - 400 مليمتر، هي مياه مستدامة خصوصاً إذا ما عملت سدود صغيرة للحفاظ على المياه المتساقطة حتى يمكن الاستفادة منها في الري، وهو توجه تنموي مناطقي يتجه نحو توسيع القاعدة الإنتاجية ويصب في تنويع مصادر الدخل، وهناك قطاعات كبيرة أدركت أن انخفاض أسعار البترول يمكن تعويضها بتنفيذ مشاريع إنتاجية، مثل اتجاه أرامكو إلى تنفيذ مشروع إنتاج 10 ملايين من الأسماك سنوياً في جزيرة أبو علي.
القطاع الخاص لن يشارك في توطين الوظائف سوى الوظائف الوهمية إذا لم تتخذ الدولة خطوات جريئة تتناسب مع الحلول الكلية إلى جانب الحلول الجزئية التي أقدمت عليها وزارة العمل، ولن يكفي إحلال الكوادر الوطنية وخصوصاً عمل المرأة ووضع برنامج زمني في القطاع العام بجانب دعم عمل المرأة في المصانع الذي لن يقبله القطاع الخاص إلا على مضض وبشكل مرحلة أو بأجور زهيدة، أو من أجل فقط الانتقال إلى مستوى أعلى في فئات السعودة التي وضعتها وزارة العمل من أجل الحصول على امتيازات أعلى وأفضل، لكنها قد تكون تكتيكية وغير مستدامة، ومتى ما وجدت تلك الشركات الفرصة ستتوقف عن توظيف تلك الفئات.
وهنا نتساءل كيف استطاعت دولة الإمارات أن تطلق عاصمة المستقبل لتجارة الجملة في العالم، بينما تتمتع السعودية بموقع أكثر أهمية، ولكن بسبب غياب التنظيمات في السعودية التي تستثمر مقومات وإمكانيات السعودية، بينما وجدت دولة الإمارات الفرصة في تحقيق عاصمة المستقبل لتجارة الجملة، بل إن ثلثي اقتصاد دبي يعتمد على التجارة والسياحة.
فيما أن السعودية لديها أماكن مقدسة تعتمد على الحج والعمرة، يمكن من خلالها تقديم أفضل الخدمات بعد تحويلها إلى صناعة خدمات مؤسساتية قادرة على توظيف أكبر عدد ممكن من الشباب والشابات السعوديات، بل يمكن السعودية أن تنشط السياحة الدينية بسبب أن السعودية غنية بالآثار الدينية وهي ممر للأنبياء والرسل، بل هي فرصة لتعريف الناس بالدين الإسلامي السمح، وتغيير أفكار الغرب عن الدين الإسلامي بأنه دين إرهابي بدلاً من تحريم تلك السياحة، التي يمكن أن تحقق عدداً من الأهداف لصالح السعودية إلى جانب تحقيق دخول هائلة، وتوفير فرص وظيفية كبيرة.
كما أن التحول الرقمي في السعودية يمكن أن يوفر 6 ملايين وظيفة، ويرفع متوسط الدخل، حيث إن خطط الدولة الرامية إلى تنمية الاقتصاد غير النفطي عبر استثمارات تقدر قيمتها بأربعة تريليونات دولار حتى عام 2030، حيث تعتبر التقنية العامل الأساس في إحداث التحول في جميع القطاعات الرئيسة في السعودية القادرة على دفع عجلة الابتكار قدما في قطاعات الرعاية الصحية وتجارة التجزئة والصناعة التحويلية. حيث إن نصف سكان السعودية فيها تقل أعمارهم عن 25 عاماً، ويمكن أن يضاعف الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 800 مليار دولار، ويرفع دخل الأسرة بنسبة 60 بالمائة، وفقاً لتقرير حديث صادر عن مؤسسة ماكينزي العالمية الذي يشير إلى أن 75 في المائة من مكاسب الإنتاجية يمكن إحرازها عبر مواءمة العمل مع أفضل الممارسات، يمكن أن يضاعف دخل السعودية إلى نحو 1500 مليار دولار، ويصبح دخل الفرد نحو 50 ألف دولار سنوياً يُوازي نصيب الفرد في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.