د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يطرح الكثير من المواطنين تساؤلات هي في غالبها محقة حول المردود الذي تحصل عليه البلاد من المصروفات الضخمة على التعليم. فنحن، بقدر من النسبية المستحقة، سبقنا الكثير من جيراننا في مجالات التعليم بشقيه الأكاديمي والمهني، وسبقناهم سواءً
في البدايات المبكرة أو في عدد المؤسسات التعليمية. غير أن بعض الجيران تجاوزنا في عمليات التنمية واقترب من التقليل على الاعتماد على النفط ليس لأنهم يملكون كوادر أفضل منا، ولا لأنهم يصرفون على التنمية أكثر منا، بل لإطلاقهم قدرات وطنهم في البناء ومنح شبابهم الفرصة، وإزالة كل القيود في وجه التطور.
ونحن قلما نقيّم مساهمة التعليم في التنمية تقييماً جدياً، ونكتفي بالمظاهر الدعائية للمؤسسات التعليمية. ويعلم من يعمل في مجال التعليم أن الجامعات صرفت الكثير من الأموال على كثير من الأبحاث في مجالات التنمية المختلفة، وعقدت المئات من الندوات والمؤتمرات غير أن توصياتها بقيت دائماً حبيسة الأدراج حتى طواها النسيان. فالمسئول يحضر للندوة أو المؤتمر، التي كلفت مبالغ طائلة من حيث الوقت والتنظيم والاستضافة الخ. ، ويستمع لكثير من الخطب الرنانة التي تثني على المؤسسة، وتتحدث عن الأهمية البالغة للمؤتمر أو الندوة، لكنه لا يتابع نتائجها وتوصياتها. بل أن القاعات في الكثير من مؤتمراتنا وندواتنا تكتظ بالحضور في حفل الافتتاح فقط، أحيانًا بحضور شرفي لا علاقة لهم بمواضيع المؤتمر.
واليوم، ومع شد الأحزمة بسبب الهبوط الرأسي لأسعار النفط، ومع رفع الدعم عن أمور أساسية في حياة المواطن كالماء والكهرباء وكذلك المواد الغذائية، ومع صدور أرقام البطالة التي توضح أننا لم نتحرك كثيرا في مجال توظيف المواطنين العاطلين مع تواجد عدد يعادل أضعافهم من العمالة الأجنبية، علينا أن نطرح أسلحة جوهرية حول أسباب هذه التناقضات التخطيطية. وسبق وكتبت عدة مرات أن التعليم استثمار، وأنه ما لم يعط مردوداً أكبر بكثير مما استثمر فيه فهو استثمار خاسر مثله مثل الموارد المهدرة الأخرى. فلما نعاني من صعوبات تنموية مع ضخامة إمكانياتنا البشرية والمعرفية؟ هذه سؤال جوهري الإجابة عليه مهمة وحيوية وتحل كثير من مشكلاتنا التنموية.
ويستحسن تقسيم الإجابة على هذا السؤال إلى تساؤلات فرعية تسهّل من مقاربه الإجابة عليه، فمن مهمة الجامعات أن تقدم الخبرة العلمية والبحثية اللازمة التي تحتاجها البلاد. والمطلعون على الخبرة المتوفرة لجامعاتنا في هذا المجال يعرفون أننا نملك ما يمكن أن نصدّره في هذا المجال لكنه مهدر. ولو لم تكن تتوفر لنا الخبرات الجاهزة فنحن نملك وسائل الحصول عليها، وهنا يكون لمفهوم «الخصوصية» معنىً مسوَغاً إذ أن مشاكلنا لا يمكن أن توكل لغيرنا ليجد حلولاً لها. لكننا دائما نلجأ لما نسميه «الخبرات الدولية» والتي هي مجرد تسمية مجمّلة لاستجلاب الأجنبي بمبالغ طائلة لأسباب غير عملية وغير موضوعية. والمحصلة هي أن تستعين بالخبرات المحلية من الباطن، أو بخبرات من دول مجاورة لأسباب لغوية وثقافية وعرقيه، وتقدم لنا في النهاية دراسات شكلها جميل، وفحواها ممنطق، وصفحاتها مليئة بالجداول والرسوم البيانية، لكنها إما مستحيلة التطبيق أو تنم عن جهل واضح بسياقات التنمية المحلية. فبيوت الخبرة هذه لديها حلول واحدة تفصلها للجميع بإجراء تغييرات تجميلية عليها، وهي تعتقد أن معاييرها تناسب الجميع بالدرجة ذاتها، فالهدف في النهاية هو الربح. وقد تستفيد هذه الشركات من خبرتها في عقودها معنا، وقد تبيع معلومات إضافية عنا لغيرنا. وقد ترحل بيوت الخبرة ومعها الأسس التي اعتمدها في دراساتها لتبيعها لجهة أخرى بالأسلوب ذاته. غير أن هناك إنجازا مهما غير منظور لهذه الخبرات وهي أنها تسهل للمسئول تنفيذ ما يريد على أنه رأي بيت خبرة عالمي محايد.
أما المهمة الأخرى للتعليم فهي إعداد أجيال من الشباب القادر على المساهمة في التنمية، شباب يملك العلوم الأساسية، وأهم من ذلك يكون قابلاً على التعلم السريع والتكيف مع المهام الجديدة التي توكل له في مهام عمله. وهنا لا بد من القول أنه لا يوجد نظام تعليمي في أي مكان في العالم يقدم لصاحب العمل موظف يلبي كافة متطلباته يشكل تلقائي. لكننا صدقنا قطاعنا الخاص في الطعن في كفاءة أبنائنا واتحنا له الاستقدام كيفما شاء في مجالات تخرج جامعاتنا فيها مئات الآلاف. وكان الأولى بنا أن نمنع العمل للوافد بتاتاً في المجالات التي يوجد بها عاطلون من المؤهلين من أبنائنا الذين استثمرنا فيهم وخسرنا الكثير على تأهيلهم، وبعضها وظائف رواتبها مجزية يسيل لها لعاب شبابنا.
ونحن خسرنا مئات المليارات في استجلاب شركات تنفذ مشاريع على المفتاح وخاصة شركات الإنشاءات الأجنبية تعمل بأسماء سعودية تحت كفلاء سعوديين يسهلون دخولها وعملها ويتقاسمون معها الربح دونما مجهود يذكر. وهذا مما أسهم في نشر الفساد في هذه القطاع وفي تعثر الكثير من المشاريع. فجميع دول العالم تحرص على أن تكون قطاع الإنشاءات وطني بالكامل لأنه من القطاعات السيادية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وهو القطاع الأقدر على توظيف العمالة المدربة المحلية. فمشاريع الإنشاءات الحكومية تراكم الخبرة وتزيد من التجربة لدى هذا القطاع، والحاجة للإنشاءات لا تتوقف بسبب التطوير المستمر للبنى التحتية من حيث البناء والصيانة. ونلحظ اليوم النقص الكبير في شركات الإنشاء في مجالات الإسكان والمباني المدرسية لأن الشركات الأجنبية رحلت إلى بلادها وبجعبتها أثمن استثمار طمحت له، الخبرة العملية التطبيقية. أما نحن فبقينا بكثير من المهندسين المؤهلين العاطلين عن العمل، والذين تأكلت خبرتهم العلمية مع مرور الوقت بدون خبرة عملية.
يبقى البحث العلمي الذي خصصننا له مبالغ لا بأس بها إلا أن هناك شبه اجماع على محدودية المردود الفعلي للجهد البحثي، فالبحث لدينا في غالبيته متقطع ومشتت ويخدم حاجات أساتذة الجامعات للترقية أكثر مما يخدم حاجات التنمية. وهناك انفصام شبه تام بين البحث والتعليم في جامعاتنا، بينما يرتكز التعليم في الجامعات العالمية على التحديث المستمر نتيجة لمستجدات البحث المتواصل. ويكفي أن نعرف أن تغيير الخطط الدراسية في جامعتنا يستغرق وقتاً طويلاً لا يقل عن سنتين، وعلى موافقة جهات عليا لا صلة مباشرة لها بالتعليم، بينما تقر الأقسام المعنية في الجمعات العالمية الخطط والمناهج بشكل فصلي وبناء على توصية الأستاذة المعنيين فقط. والتنمية المستوردة بالكامل لا تحتاج البحث المحلي، والبحث في أمور أكاديمية عالمية قد لا يخدم الحاجات المحلية. والطلاب يعلمون أحيانا علوماً متقادمة أو غير عملية، والهدف أحيانا هو الحصول على الشهادة أو المؤهل. فلا زال التعليم الجامعي بوابة التوظيف الأولى في بلدنا يقصده طالب الوظيفة لا المهتم بالعلم.
وقد حاول المغفور له الملك عبد الله دعم التعليم لتلبية التنمية البشرية في المملكة، وفتح باب الابتعاث للخارج لكل راغب في التعلم بشكل غير مسبوق في تاريخ المملكة، ولكن هذا البرنامج وللأسف لم يدار بالشكل المطلوب، وذهبت أموال البعثات لجامعات وكليات مغمورة حصلت على الكثير من المال ولم تقد لشبابنا العلم المنشود. ولو أجرينا دراسة للمقارنة بين طلاب في البعثات من حيث الجامعات والتخصصات مع طلاب بعثات الصين مثلاً لوجدنا فرقاً كبيراً في مستوى التعليم والتأهيل. هذا رغم أن برنامج الابتعاث أفرغ الكثير من الجامعات من كوادرها المؤهلة التي ذهبت لأعمال إشرافية مكتبية لتحسين وضعها المادي.
ويبقى وضعنا القائم اليوم وهو أن البلاد تعج بالكفاءات المؤهلة العاطلة التي عجز القطاع الخاص عن الاستفادة منها لإدمانه العمالة الوافدة، ولم يستطع القطاع العام المتشبع استيعابها. فنحن نحتاج أولاً أن نشخّص وضعنا بكل أمانة وشفافية، وإحداث تغييرات جذرية في توجهاتنا وخططنا للاستفادة بالشكل الأمثل من هذه الطاقات البشرية المتاحة حتى لا تبقى عالة علينا فخسارة شبابنا المؤهل خسارة مضاعفة بكل المقاييس.