د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يعتمد التخطيط الاقتصادي السليم إلى حد كبير على المعلومات والإحصاءات الدقيقة، حيث تمكّن المعلومات الدقيقة من التشخيص الحقيقي للواقع الاقتصادي، وتتيح إمكانية التنبؤ التقريبي بحجم النمو أو الركود المتوقع. وتتيح المعلومات الدورية القصيرة الأمد مراجعة القرارات وتقويم
نتائجها، ومراجعة الخطط والتخطيط من جديد لمعالجة الأوضاع الاقتصادية إذا لزم الأمر. وبدون الأرقام الصحيحة يكون التشخيص غير حقيقي والتخطيط غير واقعي. ولذا تحرص معظم الدول على أن تكون معلوماتها عن اقتصادها دقيقة إلى أكبر حد لتبتعد عن التخبط والارتجال، أو الوقوع في أزمات اقتصادية مفاجئة بسبب سوء تدني القدرة على قراءة المستقبل.
وتقوم بجمع المعلومات ونشرها عادة مؤسسات عامة كوزارات التخطيط والاقتصاد، بينما يتولى نشر معلومات الجانب المالي وزارات المال والبنوك المركزية، وتتولى جهات خاصة قراءة المعلومات وتحليلها وبناء عليها تحدد أمور كثيرة، كنسب النمو المتوقعة، نسب الفائدة، قيمة العملة، القدرة الائتمانية وغيرها من الأمور التي تهم المستثمرين. غير أن الخطورة تكمن عندما تؤثر العوامل السياسية الداخلية، أو العوامل التنافسية في الخارج في مصداقية هذه المعلومات فتنشر الدول إحصاءات غير دقيقة عن وضعها الاقتصادي المالي، إما لمواطنيها لأسباب سياسية داخلية، أو لشركات الائتمان لأهداف مالية، فيؤدي ذلك لتصور غير حقيقي لوضعها الاقتصادي.
ومكمن الخطورة في تقديم المعلومات غير الدقيقة عن الوضع الاقتصادي الحقيقي هو القرارات التي تبنى عليها، فقد تؤدي القرارات الخاطئة المبالغ فيها إلى تعقيد الوضع بشكل أكبر، أو قد تؤدي في أحوال أخرى إلى تأجيل قرارات مهمة كان من الضروري اتخاذها في توقيت صحيح يعالج الأوضاع في الوقت المناسب، فتتحول بعض المشكلات الاقتصادية إلى أزمات بالغة الكلفة لعلاجها، أو تؤدي - لا سمح الله - إلى انهيار بعض القطاعات الاقتصادية فجأة أو انهيار الاقتصاد ككل كما حدث في بلدان اتبعت أسلوب التلاعب بالأرقام الاقتصادية لتجميل صورتها الاقتصادية.
فالمعلومات الصحيحة والإحصاءات الدقيقة ليست ترفاً يمكن الاستغناء عنه في عوالم اقتصاد اليوم بل هي ضرورة تشخيصية لواقع الاقتصاد. ومن قبيل التلاعب بالمعلومات الاقتصادية غياب أو تغييب المعلومات بشكل كلي يدفع لارتجال القرارات وبنائها على تخمينات قد يتضح فيما بعد أنها غير دقيقة، وأن القرارات التي بنيت عليها خاطئة، والمشاريع التي نفذت بموجبها فاشلة أو ذات كلفة تقديرية مخالفة. ولذا تلجأ الدول إلى تعديد مصادر معلوماتها والتحقق من صحتها، وإذا تبين أن هناك تضارباً فيما بينها خالفت الجهات ذات المعلومات غير الدقيقة. فالمعلومات والإحصاءات لا يجب أن تكون صحيحة ومتسقة فقط بل ويجب أن تصدر في توقيت دوري مناسب ومتوقع ليستطيع المتتبعون لها والمستفيدون منها التأكد منها ورسم الخطط بموجبها في وقت مناسب، والمعلومة المتأخرة هي صنو المعلومة المغلوطة.
وقد نشرت مجلة «الإيوكونوميست» لشهر ديسمبر 2015 مقالاً بعنوان «الحكومات التي تخدع نفسها»، تتكلم فيه عن خطورة هذا الموضوع بالذات وتسببه في انهيار اقتصادات دول عدة بسبب انعدام الشفافية. فهي تعزو انهيار اقتصاد الاتحاد السوفيتي السابق لغياب المعلومات الدقيقة عن حالته الحقيقية لدرجة لم يستطع معها ميخائيل قورباتشوف عندما تولى رئاسة الحزب الشيوعي المركزي معرفة الحالة الحقيقة للاقتصاد لغياب المعلومات الحقيقة عن حالته. فكانت أرقام نسبة مصاريف التسلح والدفاع للناتج القومي مثلاً، بحسب سجلات الحزب ذاته، قد تم التلاعب بها وتخفيضها لحد الكبير، ولم تتوفر معلومات كافية عن أداء أي من القطاعات الأخرى، وقد صعق الوفد السوفياتي المشارك في مفاوضات تقليص الأسلحة الإستراتيجية مع الرئيس الأمريكي ريجان، مثلاً، باكتشاف أنهم لا يملكون أي معلومات دقيقة حتى عن عدد الغواصات النووية التي هي تحت الخدمة في قوات الاتحاد السوفيتي آنذاك.
والأسباب التي تراها الإيكونوميست خلف التلاعب بالمعلومات الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي هي أن الأهداف الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي توضع على مستوى القمة فقط، ومن قبل سلطة مركزية قوية تمتلك كل القرارات، فتقوم الجهات المعنية بالاقتصاد بالتلاعب بالمعلومات والإحصاءات وتمويهها لتبدو وكأنما هي حققت الأهداف التي تتطلبها قيادتها المركزية، بينما الواقع غير ذلك. فهي تقدم لسكرتارية الحزب تصورات مبالغ فيها عن وضع الدولة في الاقتصاد العالمي، فبينما تحولت الاقتصادات الغربية إلى اقتصادات منوعة تعتمد على الخدمات والمعلومات ولا تعتمد على التصنيع فقط، استمر الاتحاد السوفيتي في الاعتماد على تصنيع الحديد والصلب. ومع هبوط أسعار الطاقة لم يعد الاتحاد السوفيتي قادراً على تمويل اقتصاده ولا اقتصاد الدول الشيوعية الدائرة في فلكه مما تسبب في سقوطها واحدة تبع الأخرى، ومن ثم سقوط الاتحاد السوفيتي ذاته، وبيع الاقتصاد الروسي بثمن بخس.
ومن الأمثلة الأخرى التي ذكرتها الإيكونوميست لدول انهارت اقتصاداتها بسبب التلاعب بالمعلومات الأرجنتين وفنزويلا. الأولى استمرت في التلاعب بنسب التضخم وتقلل منها حتى تمكّن ذلك من العملة الأرجنتينية وتسبب في انهيارها بسبب عجز الحكومة عن الوفاء حتى بفوائد ديونها. أما فينزويلا وهي دولة نفطية غنية فاستمرت في إخفاء المعلومات عن اقتصادها عن مواطنيها حتى تسبب ذلك في اختفاء جميع السلع من أسواقها فجأة، مما تسبب في اضطرابات سياسية واجتماعية واسعة.
وينظر الكثير من المراقبين بتخوف للاقتصاد الصيني أيضاً حيث تتقلص الشفافية الاقتصادية إلى حد كبير ولا تعلن البنوك الصينية عادة عن شطب القروض المعدومة لأن مقترضيها عادة هم أفراد مقربون لدائرة صنع القرار الضيقة. وما زالت الاحصاءات الاقتصادية الصينية تصدر من المؤسسات الرسمية فقط، ولذلك تعمد الحكومة الوطنية والحكومات الإقليمية ومدراء الشركات لتضخيم أرقامهم وتجميل قوائمها لتبدو متسقة ومتطابقة مع خطط الحكومة المركزية. والأمر المقلق الآخر بالنسبة للمستثمرين الأجانب هو أن الحدود الفارقة بين القطاعين الخاص والعام في الصين غير واضحة، غير أن نسبة النمو المرتفعة نسبياً في الاقتصاد الصيني تغطي مرحليًا على كثير من هذه الأخطاء. وقد لا يعني ذلك علامات خطر قريب من انهيار في الاقتصاد الصيني، ولكنها بلا شك تعطي انطباعاً خاطئاً للاقتصاد العالمي الذي يعتمد في نموه جزئياً على الاقتصاد الصيني. والخطر الأكبر هو في تعرض الاقتصاد الصيني لركود فجائي - لا سمح الله - ولو حصل ذلك فسيكون كالتسونامي تحس به كافة الاقتصادات الأخرى.
ولا شك أن أكبر الأسواق المتضررة من المعلومات المغلوطة، أو من غياب المعلومات الصحيحة أسواق المال التي تتعرض أخيراً وبشكل متكرر لكثير من الاضطرابات والمضاربات، وأصبحت دوائر فقاعاتها وانهياراتها تتقارب بشكل واضح. وتتضرر أسواق المال أيضاً بشكل كبير بالتداول بناء على معلومات داخلية لأن ذلك إضافة لكونه تحايل غير عادل بحق المستثمرين الآخرين إلا أنه يفقد المستثمرين الثقة في السوق تدريجياً مما يطيل بدورات التباطء فيه ويحد من الثقة فيه ويمنع انتعاشه.
وفي النهاية فالاقتصاد والمال تجارة، وأساس التجارة الحقيقة معروف منذ القدم وهو الأمانة وتكافؤ الفرص، والحق في المعلومة الدقيقة المناسبة في الوقت المناسب للجميع أحد أوجه الأمانة التجارية. والتلاعب بالمعلومات غير جائز لا عرفاً ولا شرعاً. فإطلاع المواطنين والمستثمرين على الوضع الحقيقي للاقتصاد يساعدهم على اتخاذ القرارات الصائبة في استثمار أموالهم، ويمنع الانهيارات الفجائية الكارثية لأي من القطاعات، أو - لا سمح الله - التراجع الحاد للاقتصاد. كما وتجب محاسبة بعض الجهات أو الشركات حال اكتشاف تلاعبها بالمعلومات أو الإحصاءات بهدف تجميلها، فالمعلومات هي للاقتصاد بمنزلة الأعراض للصحة.
والله من وراء القصد.