د. فوزية البكر
تتعجب حين تقابل أجنبياً أمضى سنوات من عمره داخل البلاد وتجده يعجز عن نطق بعض العبارات بلغة عربية أو عامية. يساهم في ذلك بالطبع عدة عوامل منها صعوبة وتعقد اللغة العربية نفسها، وعدم مواكبة طرق تعليمها لغير الناطقين بها للطرق الحديثة التي يتم بها تعلُّم بعض اللغات الحية مثل الإنجليزية،
... إضافة إلى الطبيعة المعزولة للمجتمع السعودي خاصة مع الصحوة الدينية خلال العشرين سنة الأخيرة، والتي كرّهت الانفتاح على ثقافات العالم وضيقت التفاعلات الاجتماعية في حدودها الدنيا، فبقي غير السعوديين ضمن أماكن تجمعاتهم المعزولة، ثم جاء الداء القاتل: داء الإرهاب حيث طغت المبررات الأمنية على ساحتنا للأسف، مما ساهم في تكريس عزلة فعلية بين السعوديين والأجانب مكانياً وثقافياً واجتماعياً.
المحصلة: لا يوجد تفاعل مباشر بين مواطن سعودي ومقيم في معظم مدننا ومن الصعب تعلُّم اللغة العامية هنا، كما يحدث لأي أجنبي في بلدان عربية أخرى مثل الشام أو مصر أو بيروت، بحيث لا يحتاج الأجانب بالضرورة إلى معاهد متخصصة لتعلُّم اللغة المحكية، وما عليهم سوى النزول للشارع والتحدث مع البائع وسائق التاكسي والمكوجي والخباز ليلتقطوا عادات البلاد. طبعاً لكون أهل تلك البلاد هم من يؤدون هذه الوظائف الدنيا التي لا يمارسها السعودي في العادة، لذا تبقى اللغة الإنجليزية هي الأم في بلادنا ويفقد المقيم أحد أهم المكونات الثقافية والاجتماعية التي يسعي إليها من يعيش في الخارج، ونحن أكثر من يحرص على تعلُّمها حين يتاح لنا الإقامة في ثقافة مختلفة.
أحد العوامل الخفية التي أرى أنها تلعب دوراً بارزاً في ردع وتخويف الآخرين من غير الناطقين بالعربية من ان يتعلموا اللغة، هو ببساطة السخرية والضحك والتنكيت على أية محاولة مبتدئة من قِبل بعضهم لاختراق سياج العربية. افتح عينيك وأذنيك لتجد أن الجميع (يفقع) بالضحك لأنّ إحدى الأجنبيات تحاول جاهدة نطق كلمة تتضمن بعض الأحرف التي لا تستخدم في بعض اللغات مثل حرف ح حَ› غ ‹ق . وهم لا يسمحون لها بترديد الكلمة أو الجملة ويسارعون إلى التصحيح، وحتى لو حاولت مرة أخرى فستسمع الضحكات والابتسامات واللمزات التي تعيي المتعلِّم فيجد البديل الأسهل وهو التحدث بالإنجليزية، طالما الجميع يعرف بعضاً من مبادئها، وطالما أن أبناء العربية غارقون في ذاتيتهم المفرطة بحيث لا يرون العربية كلغة عالمية، بل إن محاولة شخص تعلُّمها ليس نصراً للعربية ومحاولة لنشرها حول العالم، وتفهم الثقافة التي أنتجتها، بل إنها لا تعني أكثر من محاولات شخصية لأجانب نرمي بهم بشكل مؤقت ولا تستحق التشجيع.
السخرية هي الوسيلة التي نقمع بها أية محاولة للتعلم يتجرأ بها طفل أو عاملة منزلية أو مدرسة لغة في مدرسة أو نحن أو أحد أطفالنا.. لا فرق للأسف.. السخرية هي أحد الأسلحة الفتاكة التي يستخدمها هذا المجتمع (من ضمن عدد كبير من الوسائل) لقمع أي جديد أو مختلف سواء كان في فكرة أو ملبس أو تسريحة شعر أو طريقة تقديم أو أو.. تذكر نفسك, أنت تجابه بالسخرية كطفل أو مراهق لقصة شعرك أو للبسك أو لفكرة شاردة أطلقتها، وويلاك بعد ذلك من سيل الضحكات المتناثرة واللمز والغمز والآن الواتس أب وتوتير العتيد.
والسؤال هو لماذا نفعل ذلك في بعضنا؟ ما أهم الدوافع الشخصية والاجتماعية والثقافية لبحار السخرية التي يلجأ لها الجميع هنا ؟
إنها بالطبع إحدى وسائل المجتمعات التقليدية على محاربة الاختلاف والإبقاء على البنية التقليدية دون مساس فإذا ما حاولت ان تكون مختلفاً فهذا يعني تهديداً للبنية الفكرية والثقافية التقليدية، مما يهدد مراكز وأشخاصا وقوى ثقافية وحكومية ومالية كبيرة، وهذه أحد خصائص بعض المجتمعات غير الديناميكية كمجتمعنا (حيث توجد مجتمعات تتميز ثقافتها بالديناميكية وقبول التغيير وهي التي تظهر فيها المخترعات والاكتشافات بشكل أسرع)، لكن مجتمعات أخرى تقليدية وغير ديناميكية مثل مجتمعنا تستخدم سلاح السخرية لحماية ظواهرها العامة وما يرتبط بهذه الظواهر من قوى اقتصادية وثقافية وبذا تبقى بنيتها العامة غير متغيرة بشكل سريع.
السخرية سلاح نفسي نشعر من خلاله بالتفوق على الآخر (المجنون) و (الأهبل) الذي يحاول مهاجمة (ما تعودنا عليه) لذا نحن الأعقل والأكبر والأقدر على حفظ التوازن الاجتماعي لذا ألا يحق لنا أن نشعر بالتفوق؟
السخرية أيضاً سلاح سريع وغير رسمي لتحذير الجميع من قبول فكرة ما وتدريجياً يتكور المجتمع التقليدي الستاتيكي على نفسه ويتعلم أفراده الحذر من التغيير ليس خوفاً من العقاب الرسمي، فالمؤسسات العامة لا تحتاج إلى ان تشهر عقابها العلني والمكلف لعائلة أو لشخص أو مركز، ولذا فهي تكتفي بإطلاق عقال مارد السخرية لتدمير أية محاولة للاختلاف وبذا نبقى جميعاً مؤدبين مهذبين كما يرغب الكبار أن نكون.. أليس الأمر ساخراً فعلاً؟