علي الخزيم
منذ الرابعة عصراً بدأت عندي حالة الترقّب والتشوّق للمُغريات التي قدمها صاحبي لوجبة عشاء بمحافظة جدة خلال أيام مضت، حيث كنت في رحلة قصيرة إلى هناك، وكان مقترحه أن يتوجّه بنا إلى مكان هادئ يُقدّم وجبات قال إنها شهية ولذيذة ولا تتوفر بكل المطاعم الفاخرة، وكانت عروضه المُسيلة للّعاب (بغزارة غير معهودة مني) تدل على براعته في مجالات الدعاية، كما أنها طيّرت من عيني الرغبة بالنوم بعد مشقة نسبية في أداء العمرة ولله الحمد، كيف لمثلي أن ينام وهو يسمع (بأم أذنيه) ذلكم العرض الجذاب لطبق من اللحم الشهي النادر يُشوى على (الطريقة المنغولية) ويُحَلّى بطبقة من العسل ويقدم بجانبه ثلاثة أنواع من (الصوص) المُحتكر لذلك الاسم من سلسلة المطاعم التي وصفها بأنها راقية، وازدريت نفسي وهي تخضع لهذا العرض الباهر، حتى وإن كان كذلك؛ فما لي لا أكون صلباً أمام هذه الدعايات المغرضة التي كنت دائماً أزعم أنها صرعات شبابية لا أميل لها كثيراً، هل هي سطوة الجوع، أم هي القدرات الفذّة لمن دعانا إلى تلكم الوجبة التي سحرت كل مصادر الإحساس عندي قبل أن أراها أو أتذوق طعمها؟ كانت السويعات تمضي بطيئة وأنا أحاول جاهداً استذكار اسم الطبق المنشود، فما أن أذكره حتى يطير من ذاكرتي المُجْهدة فأخجل أن أسأله مرة تاسعة، لكن تنفرج أساريري كلما لَمّح مُجدداً إلى أننا سنذهب إلى هناك لعلّه يتطرق إلى الاسم العجيب، وأخرجت هاتفي الجوال لأدوّن الاسم سريعاً بصفحة الملاحظات حالما يتلفظ به، حل الظلام مُبشراً بقرب موعد اللقاء بالطبق العزيز وماهي إلا مسافة الطريق بعد صلاة العشاء فكنا هناك مجموعة من ستة أشخاص، بالخارج صخب وأضواء خلاّبة وبالداخل شموع وهدوء رومانسي (لا يُصَدّق) حتى ظننت أنهم يتناولون طعامهم بواسطة أشعة الليزر، على المائدة لمحت كتلاً من السكاكين والأشواك ومعدات أخرى توقعت معها أنني سأقطع وأشوي اللحم بنفسي، ووضعوا أمامي كتاباً مزخرفاً، قلت: نحن قوم لا نقرأ والجوع يطوينا، فقالوا إنما لتختار ما تريد، أجبت بأن ما أريده معروف منذ عصر اليوم، وأوعزت للنادل بتنفيذ الطلب دون تأخير، لم يحضروا على المنضدة أي مُقبلات ومشهيات سوى (ثلاثي الصوص) الذي لو سكب على حطب لأشعله بدون ثقاب، وعلّلت ذلك بأنه ربما للمساعدة على ترك المجال للجهاز الهضمي لالتهام الطبق الشهي دون أطباق منافسة، ولربما أنهم هنا يرون مسألة المقبلات لمن لا يملكون مهارة إعدد أطباق جاذبة، كان الرفاق يتحدثون وأنا أترقّب؛ فإذا بالنادل يرمي أمامي بطبق داخله حفنة من شرائح لحم مجفف ومشوي يغطيه سائل حلو يقال إنه نكهة العسل، ومع خيبة أملي التهمتها كسنجاب يقرض لحاء الشجر، فمع الجوع كل الأطعمة سائغة، كان الطبق الأسطوري مما يُسمى في نجد (القفر) أو الشريح، وهو القديد، نعمة كريمة، فيا أيها الرومانسيون راجعوا أوضاعكم فهي لا تتسق مع القديد، واعلموا أن الأذواق لا تشترى.