فيصل أكرم
وأنا الجديد على العالم الافتراضي (فيسبوك) ولم أزل أتدرّب على ضبط البيانات والمنشورات في صفحتي، فوجئتُ على صدرها بمن يكتب لي: (لا شكّ أنكَ لستَ أنتْ). تذكّرتُ فوراً أنه مطلعُ إحدى قصائدي القديمة، فأكملته له: (هذا جوابُ الآخرينَ إذا سألتْ)!
من هنا بدأت معرفتي بهذا الشاب الشاعر (عبد الله المحسن) ظننته قبل التقائي به لا يكبرني ولا يصغرني كثيراً، ظننته من جيلي - فأنا لا أعرف شعراء جيلي جيداً! - ولكنني اندهشتُ حين قدّم لي نسخة من ديوانه (يترجّل عن ظهره كخطأ كونيّ) وأشار لي أن أقرأ على صفحته الأخيرة، التعريف الخاص بالشاعر: (عبد الله المحسن - مواليد السعودية 1997) ولستُ بحاجة إلى تنبيه بأن هذا العام، الذي وُلد فيه هذا الشاعر، هو نفسه العام الذي صدر فيه ديواني الأول (الخروج من المرآة)!
الأزمنة لا تعرف المصادفات ولا التكرار، الأحداث تتطابق وتتشابه ربما، ولكن الأزمنة وتعدادها بالسنين سلسلة تمتدُّ أبداً، وهذا الرقم (1997) يمثّل لي الولادة الشعرية وتسميتها بديوان والخروج به إلى الاعترافات كلها، هكذا فقط، قبل معرفتي بهذا الشاعر الذي خرج أول خروجه إلى هذه الدنيا في العام نفسه. فهل هذا يكفي لأحتفي به؟ بالطبع لا.
الشاعر عبد الله المحسن، في ديوانه الأول الذي أعجبني بداية من العنوان وتصميم الغلاف (يترجل عن ظهره كخطأ كوني) - الصادر عن دار (مسعى) في البحرين 2014 - يكتب (قصيدة النثر)، وقصيدة النثر أحياناً قليلة تكون بمستوى الشعر وفي معظم الأحيان لا تكون حتى بمستوى الخاطرة. من يحدد ذلك؟ يزعم غيرُ العارفين بكينونة الشعر أن (الذائقة) هي من تحدد ذلك، والذائقة متباينة من شخص لشخص، وهذا معناه - بحسب زعمهم – أن قصيدة النثر شِعرٌ كلها عند من يملك ذائقة تتخذها شعراً، وليست بشعر عند من لا يملك تلك الذائقة. وبرأيي تلك مهزلة!
فللشعر وقعٌ، سواء جاء بالإيقاع الموسيقي التقليدي، أو بإيقاع آخر من اللغة والتاريخ والمعارف عموماً، وما أكثر الإيقاعات في هذه القصيدة التي حملت عنوان الديوان:
(لا تلمس الآن هذا الغصن
حتى لا يستعاد فيك التعب
أيها المحكومُ في جسدك
كيف ستتخلّص الآن من وطأة الأقدام
على ظهرك؟
لا تلتفت إذاً
للذي - بحنيةٍ - يلامس كتفك
لا تلتفت..
إنهم موتى، وهذا الكون لك).
هي سلالم يصعدها الشعراءُ مع التجارب في الحياة والقراءات، وهذا الشاعر كان في السابعة عشرة من عمره حين صدر له هذا الديوان، وتبدو التجربة ليست في بداية تكوّنها، واللغة ليست في تخبطها الأوليّ. وهذا ليس بعجيب، فكثيرٌ من الشعراء صدرت دواوينهم الأولى في السابعة عشرة من أعمارهم، لعلّ أشهرهم في العصر الحديث نزار قباني، لذا لن أتوقف كثيراً عند مسألة العمر، فقط سأتوقع أن هذا الشاعر الشاب قد حدد ملامح شخصيته الشعرية بهذا الديوان، وسيستمرُّ في رسمها وتطويرها. لماذا؟
لأن المقطع الذي اقتطفته من ديوانه لم يكن مجرد فكرة دوّنها أو تركيبة جمل كما يفعل معظم الشباب في بداياتهم مع الكتابة، بل هي (قضية) يحملها ويتحمّل همومها.. لا.. لم يبح لي بشيء من ذلك في وقفتي السريعة معه أثناء لقائنا الوحيد، ولكنها تتجلّى قضية حين نتابع القراءة، ليتابع الشعرُ وقوعَه في تأمّلنا:
(عالقٌ أنت في الجذور
تُشقق جلدك كلما مرَّ صيفٌ
كي يستريح
فلا تلتفت إذاً..)
وأيضاً:
(بعد الطوفان..
حين تلامس أقدامنا الأرض
نتجذّر فيها من جديد
هل تعود أخشابُ السفينة
لتكوّن غابة؟
والمجاديف لتصبح أغصاناً)؟
كنتُ سأكتفي بعبارات الإعجاب، كعادتي حين أكتبُ محتفياً بكتاب، غير أنني حين مررتُ سريعاً بمحركات البحث الإلكترونيّ وجدتُ أن عبد الله المحسن يكاد يُقتل إعجاباً من شباب وسائل التواصل الحديثة، ووجدتُ كثيراً من الصحف أيضاً زخّت عليه عبارات الإعجاب بسخاء يجعلني أخاف عليه من أشياء كبيرة ولكنها محدودة، وأتمنى أن يتجاوزها غير (ملتفتٍ) لمن اتُخذوا بحصوله على جائزة في الشعر من إيطاليا - كما قرأت - فراحوا يدبجون له عبارات توهم بوصوله إلى (قمة) لا وجود لها إلا في المخيّلات القاصرة.
أنتظر من عبد الله أن يتخفف من أصوات تطغى على صوته في قصيدته، أصوات من سبقوه فأصبحوا من (رموز) قصيدة النثر - وأنا أتحفظ على مصطلح (رموز) لا (قصيدة نثر) - فالشيء لا يكون رمزاً حين يشبه غيره. هذا خوفي الثاني عليه، أما خوفي الأول والأخير فهو من استمراء تجاوز مخاطبة الناس والأشياء في الكون إلى مخاطبة (الله عزّ وجل) مع كل (شطحة) كما يفعل كثيرون بلا هدف سوى (التجاوز) الناجم عن عجز في امتلاك أدوات الكتابة، بداية من الوعي مروراً بالمفردات والقواميس ومعاجم الألفاظ والمعاني وصولاً إلى (المسؤولية). وقد يلاحظ المتابع للأجيال الجديدة في الكتابة الأدبية أن هناك من يحاول تقنينها في تيارات فكرية أو مذهبية أو ما شابه، وكلها شبهاتٌ ليست في صالح الأدب ولا الأدباء؛ تماماً كالتباهي بدخول كتابٍ قائمة (المنع) رقابياً.. كلها أشياء صغيرة - ضررها أكبر من نفعها - في تكوين شخصية شعرية حقيقية تنفرد بتميّزها عن (السوائد). والسوائد - من عندي - جمع سائد لغير العاقل!
وسأكتفي بهذه الإشارات آملاً أن أقرأ لعبد الله المحسن ما يجعلني أبارك للعام المحبب إلى قلبي شعرياً (1997) بأنه لم يعد بالنسبة لي مجرد عام صدور ديواني الأول، بل هو عام ولادة شاعر حقيقيّ أحببته من أوّل تعارف وأحسستُ بأنه لن يكون - في المستقبل القريب - مجرَّدَ شاعرٍ عاديّ (كبير)، ككثير ممن نطلق عليهم صفة (الشعراء الكبار)، بل سيكون (رمزاً حقيقياً) لقصيدةٍ تميّزه كلّ التميّز عن غيره من المتميّزين.