د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
لقد أذهلني معالي وزير التعليم الذي بسط يده كل البسط، ونثر بضاعته وصفاً ورقماً في مقاله المنكشف الشهير (تعليمنا إلى أين؟) وهو ما نشرته جريدة الحياة -مكشوفاً أيضاً- في يوم الأحد الماضي، وقد أدرك معاليه الصورة الكاملة لمشكلات التعليم الذي حمل -أعانه الله- قضها وقضيضها، ثم شرّحها معاليه بمبضع الجراح الخبير.
وبين هِمَّة الوزير التربوي, وبين واقع أقفر من الاحتفاء بأهله الحقيقيين وأعني بهم الطلاب تقع محطات لم تصلها قطارات الطلاب إلا قليل ممن اصطفتهم قطارات «موهبة» أو نزر من المدارس النابه أهلها، وما أقسى أن يدرك هم معالي الوزير كل الناس إلا من يديرون عمله ويصنعون قطاراته التي ضلت الطريق، ويعلم معاليه أن الطلاب حتماً يجب أن يكونوا جزءاً أصيلاً من البحث حتى يقبلوا ويقبل الواقع أن يكونوا جزءاً من الاستنتاج وهذا ما تفتقده وزارة الطلاب منذ عهود.
وكم هو شغفي كبيرا أن أقف عند قوادح معاليه وأمانيه في المقال كله؛ ولكن المساحة المتاحة لي لا تبشر بخير! وسوف أقف عند نقاط اتفقتُ مع عقلي أن أطلق عليها شروط التعليم ،وقد حفزتها وثيقة الوزير الإصلاحية في مقاله تتصدرها صناعة القرار التربوي المشترك مع الميدان ,وأن يتشكل من خلال محددات دقيقة جدا ترصدها الحاجة ،ويتطلبها الواقع التربوي وأن لا تكون جل القرارات أحادية الاتجاه تصنع في الجهاز المركزي نتيجة إيماءة مسئول أو فكرة عابرة ساقتها لحظة اجتماع خاطفة ،أو ابتسامة تأييد من فلان أو نظرة بعين الرضا ولدت بعد نقاش ثانوي، أو قناعة مسئول يدعي وصلا بليلى، وقد عرّج معاليه في مقاله على وجود سياسات وقرارات تدفع الوزارة ثمنها ،والواقع أن جل القرارات ترصد الأعراض ،وتطرح علاجها على عجالة، ولكنها تخلو من الغوص في المسببات الحقيقية، فتأتي التوجيهات لا تسمن ولا تغني من جوع؛ فأصبحت تتوالى للميدان من الجهاز المركزي كمقرر يومي إجباري، حتى أحسب أن الميدان التربوي بحاجة إلى هدنة لالتقاط أنفاسه، وترتيب موجوداته، ولعل معالي الوزير يقرها وهو القوي الأمين.
وأعرج على شرط استيعاب مفهوم المدرسة الذي أطلقه معالي الوزير واعتبره من أبواب الإصلاح، وذلك لأن المدرسة وعاء اجتماعي كبير يمكّن من الحياة وإليها، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال إصلاح النظام المدرسي كما وكيفا ؛فلماذا تغلق المدارس ربع أيام السنة تقريبا، ويكون الاستعداد لبداية جادة خارجها؟! ومن المنطق أن إحداث الاستعداد يتم في مكانه، كما أنه من إصلاح النظام أن تفعل اللامركزية المنضبطة، فتكون المدرسة ميداناً للتطوير بكل مكوناتها ومصنعا لقراراتها التنظيمية، فمن المسلم به أن التخطيط على أرض الواقع هو الذي يصنع التغيير الحقيقي، ففي المدرسة يدعم الجانب التربوي ،وتنمى القدرات العقلية لدى الطلاب، ويعلو التمكن العلمي لدى المعلمين، وتصنع شخصيات الطلاب النامية من خلال حزم النشاطات الحية التي تتبنى مبادرات الطلاب وحصاد مواهبهم، وأحسب ذلك يلزمه مدٌّ زمني أيضاً، أما إصلاح الواقع الكمي للمدارس فيكون في تبني نموذج المجمعات التعليمية الكبرى بقيادة عامة ومدراء فرعيين مع نظام تحفيزي شامل يصطفي أولي العزم لقيادة تلك الصروح ويلزم تلك المجمعات صياغة نظام تشغيلي مرن ومتكامل واضح القنوات يمسك بعضه رقاب بعض، ولابد في ذلك من مراعاة النطاقات الجغرافية ؛وموارد ذلك النطاق المادية والبشرية وموروثها الثقافي والاجتماعي لتكون تلك المجمعات نموذجاً وطنياً يحفز على النهوض.
ومن شروط الإتمام صياغة نظام تحفيزي متكامل يكون الطلاب في قناطره المتقدمة، فقد تبعثرت الحوافز وأشغلتنا المسابقات خارج دارنا ونحن نفقد التنافس داخلها إلا من خلال جوائز محدودة تصطفي عدداً لا يمثل قطرة في بحر المستحقين للتحفيز وإشعال جذوة حماسهم، وأن يدخل في منظومة تحفيز الطلاب جوائز الالتزام بالقيم، والسلوك القويم والانضباط المدرسي؛ أسوة بمن يكافؤون لتفوقهم في العلوم البحتة؛ فبناء الوجدان عند الطلاب قد توارى في جل حقولنا حتى وإن نمت بعض ثمار العقول، فإنها لا تسقط رطباً جنياً على واقعنا الاجتماعي.
ولقد أثنى معالي الوزير في مقاله على بعض المؤسسات التي ولّدها الزمن لدعم التعليم والإسهام في دفع نهضته، ولكنها في رأيي المتواضع تكاثرت على خراش، وأعني به الميدان التربوي، فاختلط نابلهم بحابل الوزارة الأم، وهنا أدلف إلى شروط وجود أولئك في واقع الميدان بأن يعلم كل أناس مشربهم فلا يردون غيره وأن تُرسّم بينهم وبين الوزارة الحدود.
ومنظومة المنهج زلزلتها عبارة معاليه «سددوا وقاربوا» فثلم قلم معاليه في معايير المنهج،
بناء وفلسفة وأثني أن واقع المناهج مشلول بالجوانب النظرية دونما الاهتمام بالجوانب التطبيقية التي تحقق المهارات؛ كما أن استزراع القيم الوجدانية خلال المنهج مفقودة أيضا إلا في بعض الوقفات التي لا تمثل معياراً كافياً للحكم بوجودها.
وعرض معالي الوزير واقع تدريب المعلمين وهو من أكبر الملفات وأهمها وأكثرها وضوحاً وأنه يلزمهم قرون للوصول للتدريب النوعي المتكئ على الممارسة في الدول المتقدمة وعلى حد قول العامة في الحكمة المشهورة (سبحان من يلحق) وحتى لا ننتظر قروناً فكل صيد موجه للمعلمين لا بد فيه من إصلاح النظام والممارسات في دائرة الصيد، ويحمد لمعالي الوزير أنه وضع يده على منصات التأسيس فأصدر قراره الواعي بتخفيض نسبة القبول في الكليات التربوية ورفع سقف معايير القبول فيها، ومن هنا نتساءل: كيف نستدعي صاحب الوزن العالي ليكون طالبا في كلية التربية ثم معلما؟ ولي في ذلك رؤية دونتها في مقالي في هذه الصحيفة (معلم المستقبل.. إعداده وتطويره) وموجزها أن يُستقطب المعلمون من الطلاب المتميزين في المرحلة الثانوية أو أن تكون كليات التربية للإعداد التربوي فقط والدراسات العليا التربوية، وتبقى الحقيقة الماثلة أن الواقع الكمي سوف يبقى ما دام أن واقع التعامل مع التعليم كوظيفة وليس مهنة ؛فلا يمكن للوظيفة في فلسفتها أن تلتفت للمنتج النوعي الذي تلبسه المهنة، ويمكن أن يكون للكليات التربوية بثقلها التكويني ومهامها المنصوص عليها في إقرار رخصة المعلم مع الجهة المختصة في إعدادها، وكذلك في تحديد مقومات تجديد الرخصة عندما تخرج من (أكنانها) بإذن الله، أما واقع تدريب المعلمين الحالي كما أحاطه معالي الوزير بالتواضع وفي المصطلح التربوي القليل الأثر والتأثير، فيلزم إنعاشه بجرعات عاجلة وذلك باستقطاب الكفاءات في المجال تخطيطا وتنفيذا، وتخصيص زمنه في غير أوقات التدريس، ومن ثم ربطه بحوافز تشجيعية كمنح درجات في سلم الوظائف ضمن معايير نوعية وكمية تتفق عليها وزارتا التعليم والخدمة المدنية, وأجزم أن استقرار المعلم شأن تربوي جدير بالتمعن، وربما كانت المفاضلة في التعيين مناطقياً تحقيقاً لاستقرار المعلمين ومد وشائج الانتماء بينهم وبين مهنة التدريس.
وأختم أن هذه العجالة لم تكن مني شافية وكافية؛ ففي مقال معالي الوزير شجون أخرى لعلي أعود إليها مستقبلاً.
ومن جميل القول أن الرؤية واضحة عند معالي الوزير، والعزيمة صادقة, مما سوف يمكن معاليه -بعون الله- من الدخول إلى المتون واستقرائها دون الهوامش، وأن يصنع مشاعل الضوء، وتحويل التعليم ليكون أهم أدوات صناعة التنمية الوطنية.