د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
نعيش في بلد صحراوي قليل الموارد المائية، كثير القسوة الصحراوية. فإضافة لقلة الموارد المائية، واضطرارنا لتعويضها من معالجة مياه البحر، هناك درجات الحرارة المرتفعة جدًّا في الصيف، وكذلك تزايد الغبار نتيجة إهمالنا لتآكل الغطاء النباتي،
أو تدميره، إما بالرعي الجائر أو غيره. فبعض المواطنين - مثلاً - يمارس تدمير البيئة والغطاء النباتي للبلاد بالتفاخر بأعداد كبيرة من الماشية، يطلقها مع رعيان أجانب في الصحراء طيلة العام؛ ليخرج للتنزه حولها في أيام معدودة في الربيع! وهؤلاء بالطبع ليسوا من أصحاب الشرائح الدنيا في فواتير المياه، ولكنهم في وعيهم يرون القدرة المالية تمنحهم الحق الأخلاقي لممارسة ما يشاؤون. وهذا مَثل ينطبق على مناحي تبذير كثيرة، بعضها يقوم به من يعتبر نفسه قدوة أخلاقية في أمور أخرى.
تكاليف معالجة مياه البحر باهظة، وهذا لا مراء فيه، لكنها اليوم تبدو أكثر كلفة نتيجة لازدياد الطلب عليها، وارتفاع كلفتها، وتقلص أسعار النفط. ورغم محدودية مواردنا إجمالاً، وليست المائية فقط، إلا أننا لم نخطط للتوسع في خدماتنا وعمراننا بسياسات سكانية من أي نوع، ولم نراعِ التوسع السكاني مبكرًا بما يتناسب والقدرة على استدامة الموارد للأجيال الحالية والقادمة، فكل جيل يقضم حق ما بعده. وليتنا نستهلك لضرورة أو ترف معقول فقط، لكننا أحياننا نستهلك ببذخ غير معقول، لا ينم إلا عن انعدام الحس الأخلاقي والمسؤولية. ومن يقوم بذلك هم من يملكون وسائل هذا البذخ: استراحات، مزارع مد النظر، لا يوجد نظير لها حتى في الدول التي تتوافر فيها المياه. ونحن للأسف نربط المسؤولية الأخلاقية بالقدرة على تحمل الكلفة المالية فقط، وليس بالمسؤولية الأخلاقية ولا بالحفاظ على الموارد! علمًا بأن ديننا الحنيف يأمرنا بالاقتصاد بشكل لا لبس فيه؛ فقد وصف الله جل وعلا المبذرين بإخوان الشياطين، وأعقب ذلك بالتذكير بأن {... وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}! وقد ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السرف يا سعد؟». قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: «نعم، وإن كنت على نهر جار». ولم يقل له إن كان ماؤك فلا تثريب. فالمسؤولية في الحفاظ على الماء بالذات هي مسؤولية أخلاقية ودينية، وليست مالية.
ومشكلة المياه معروفة لدينا منذ توحدنا في دولة واحدة، جعلت رفاهية المواطن هدفًا لها. ونحن مررنا بطفرات عقارية بإنشاء بنك عقاري، وأقرضنا المواطنين لبناء منازلهم بمجموعة من الشروط: ارتدادات، أسوار، مواصفات طلاء، مواصفات تشطيب... إلخ. وليس من بينها أي شرط يهتم بتوفير المياه. وكثير من مشاريعنا السكنية والحكومية تنفذها شركات خارجية، لا تعرف عن مشكلة المياه لدينا شيئًا، وآخر ما يفكر فيه بعض مسؤولينا عند ترسية هذه المشاريع هو الماء.
وما زلنا نسرف في استهلاك الماء في الزراعة، وهناك مزارع بمد النظر تنتج ملايين الأطنان من التمور وغيرها دونما اعتبار لمصير أجيالنا القادمة!! أي أننا - بعبارة أخرى - نتصدق بالماء لدول أخرى، لا تعاني نقصًا فيه. وما زالت الكثير من منتجاتنا الزراعية تصدَّر للخارج دونما اعتبار للماء، بل إن كثيرًا من مسؤولي المياه والزراعة يملكون مزارع، وهذا أمر لا خلاف عليه لو كان ذلك لتلبية حاجات غذائية معينة، وبعيدًا عن الإسراف والتنزه. فالقدوة في توفير المياه ومسؤولية الحفاظ عليها تبدأ من المسؤولين الكبار قبل الصغار. ويقع على عاتق قدوة المجتمع أن يبدو للعامة بشكل عملي، وليس خطابيًّا، اهتمامهم بترشيد المياه والأمور الأخرى، وتوعيتهم بفضيلة الزهد والبساطة والاقتصاد في الموارد وتوفيرها، كما فعل قدوتنا الرسول الأكرم وخلفاؤه من بعده. وقد حذرنا ديننا ممن يأمرون الناس بالمعروف وينسون أنفسهم. وهذا ينطبق إلى حد كبير على جميع مناشط البذخ في المجتمع التي تربط عادة بالمكانة الاجتماعية. وقد أثبتت الدراسات الاجتماعية أن فئة كبيرة من متوسطي الدخل مولعون دائمًا بتقليد الفئات الأعلى في المجتمع.
وبالأمس تم رفع قيمة استهلاك المياه فجأة فيما يشبه الصدمة للمواطنين كافة بأسلوب لم يقدم له ولم يستوعبه الكثير منهم، وبدا الأمر وكأنه عقاب مادي، وليس تشجيعًا على المسؤولية الأخلاقية للحفاظ على المياه. فحساب الشرائح القديمة كان بفارق 50 مترًا مكعبًا، وبتصاعد سعري منخفض مقارنة بالنظام الجديد، ثم تحول إلى 15 مترًا مكعبًا شهريًّا، والتكلفة تقفز بين الشرائح بشكل متوالٍ مبالغ فيها: 15 هللة، 150 هللة، 450 هللة، 600 هللة، و900 هللة بنسبة زيادة عند كل 15 مترًا مكعبًا فقط!! وتم احتساب الحد الأعلى بـ 60 مترًا بدلاً من 300 كما في السابق!! ليس ذلك فحسب، بل إن الشركة أوصلت المجاري للمنازل على حساب مالكيها، وتحسب عليهم نصف قيمة الفاتورة فيما يسمي بالخارج. أي أن التسعير الحقيقي لشريحة الـ 30 مترًا مكعبًا هي 250 هللة وليست 150 هللة. وكما يقول المثل: ليتنا من حجنا سالمون.
هذه الزيادة تحكي عن نفسها من حيث القفزات والمضاعفات، وهي نظرت لمسؤولية المواطن فقط في الاستهلاك، ولم تنظر لمسؤوليتها هي في تأسيس شبكات صحيحة، أو في توفير نظام فوترة دقيق؛ إذ إن بعض المنازل حسب عليه (خارج مجاري) وليس بها (مجاري) أصلاً، كما أن بعض فواتير المواطنين ثبت أنها غير معقولة بل غير واقعية أحيانًا، ولا يمكن أن تصل لهذه المبالغ حتى ولو كانت الشركة تضخ الماء للخزان بكامل طاقتها لأربع وعشرين ساعة على مدى سبعة أيام. والغريب أن الشركة لا تعتذر للمواطن عن حدوث الخطأ حتى ولو ثبت أن الخطأ من جانبها؛ لأنها تعتبر نفسها جهة عليا، تتحكم في أهم حاجات المواطن، وليس على المواطن إلا الإذعان! ولا يعرف الكثير من المواطنين الكيفية التي سيتعاملون بها مع هذه الزيادة «المجحفة» في فواتيرهم. ونتمنى من معالي الوزير أو مسؤولي الشركة أن يضربوا لنا القدوة الأخلاقية في ذلك، كما فعل الرسول، ويوضحوا لنا عمليًّا إمكانية العيش على معدل 15 مترًا مكعبًا من الماء شهريًّا في صيف قائظ مثل صيفنا!! وقد يقول قائل إن المسؤولين لديهم القدرة على الدفع، ولهم الحق في الصرف كيفما شاؤوا ما داموا يدفعون، بل لهم الحق في فتح أكثر من بيت إذا ما هم أرادوا. وهذا كلام صحيح في المنطق المطلق، ولكن غير مقبول من ناحية أخلاقية.
فكنا نتوقع من مسؤولي المياه لدينا أن يأخذونا لمنازلهم؛ ليعطونا دروسًا في الطريقة التي يرشدون بها المياه والكهرباء، أو على الأقل يرونا فواتيرهم؛ لنرى معدلات استهلاكهم؛ فالقضية كما نفهمها لها علاقة بالترشيد لموارد ناضبة، ولا ارتباط لها بالقدرة على الدفع، أو حتى القدرة على التهرب منه. أما أن نتعامل مع المياه بمنطق أن من يستطيع دفع الفواتير - أي بعبارة أخرى من يملك المال - يُعفى من هذه المسؤولية فإننا هنا نرمي بالمسؤولية الأخلاقية في ترشيد المياه على الطرف الأضعف، والأفقر، والأقل استهلاكًا. والأصح في الترشيد أن تُخصَّص للمنازل - جميع المنازل - حصصٌ متكافئة من المياه. ويجب علينا إيقاف الهدر في القطاعات الأخرى بالصرامة ذاتها؛ فهناك دراسات أكاديمية أثبتت هدرًا كبيرًا في المياه في المساجد المفتوحة للاستخدام حتى خارج أوقات الصلاة، التي تبذر الماء في الوضوء مخالفة تعاليم الإسلام، وكذلك الهدر في الدوائر الحكومية، وغيرها. ما نحتاجه اليوم هو مراجعة للتعرفة الجديدة بشكل معقول من حيث حجم الشرائح والتسعير. وليتنا نرى جهدًا حقيقيًّا للترشيد، لا يعتمد الفواتير فقط.