د.فوزية أبو خالد
عبير الشوكلاة والجغرافيا
أسير على طرقات مرصوفة بهسيس الحكايا بهمس ما فضحته الخطوات في تؤدتها أو سرعتها من أسرار العابرين بها, طرقات تتسع كأفق فأفرد أجنحتي على مداها، وطرقات تضيق وتتعرج مثل مضائق البحار فأرفع ثيابي قليلاً لئلا تبتل، بينما أخلع حذائي لأحرر قدمي بملمس الماء. فأين تخالون هذا المكان؟
أسير وتنبعث رائحة ألواح الشوكلاة من دكاكين مفتوحة الأبواب كأنها تنتظر أطفال العالم ليمروا بالمرآب. تتضوع رائحة شراب الشوكلاة من مقاهٍ صغيرة أنيقة، وكأنها أُعدت قبل العمر لاستقبال المتعبين من رسامين وموسيقيين وكتاب وعشاق ومواطنين بمختلف الأطياف. فأين تظنون هذا المكان؟
أجلس على مقعد مرتفع في قاعة واسعة، تضم مدرجات عديدة واسعة بنصف استدارة، لكنها ليست مدرج كرة ولا مدرج جامعة أو مسرحًا. أميز ذلك من تعدد وتوحد الأعلام التي تتوزع في أرجائها. فأين يكون هذا المكان الكمين؟
كان المكان وادعًا مثل كلمة سلااااام، في لحظة كان فصل الخريف يضرج الأشجار والساحات بمختلف درجات ألوان الذهب من العسلي الشفيف إلى الناري الساطع؛ فتخطف الأبصار تلك اللوحة المشغولة كجدارية كوجستاف كلمنت بالكثير من الشغف والشجن والتوق في العلاقة المعقدة بين الماضي والحاضر والمستقبل. وفي العلاقة الأكثر تركيبًا بين كيمياء المكان ومختبر التاريخ المتمثل في الزمان بأحداثه وتحولاته.
وكانت تلك المشاهد ترتبط بتظاهرة ثقافية كبيرة، تعددت فيها الأصوات والمشارب والملامح والأفكار. كان هناك معزوفات عربية للرحبانية وللسمباطي وبليغ حمدي والنهر الخالد لمحمد عبدالوهاب وسيمفونية تشايكوفسكي وباخ وموزارت. كانت هناك لغات العربية والفرنسية والهولندية والإنجليزية والإسبانية. رأيت في التظاهرة الروائي الجزائري برواياته الصاعقة محمد مولسهول الذي يكتب باسم زوجته وأمه ياسمينة خضرا. قابلت في الجمع الثقافي العلامة العراقي بروفيسور سليم الحسني مؤلف المجلد العلمي المهم والملهم ألف اختراع واختراع من التراث المعرفي لحضارة المسلمين في العالم المعاصر. وكان هناك من السعودية د. عبدالله العلمي والإعلامية وفاء بكر يونس وفرقة الفنون الشعبية عن الثقافة والفنون. وكان هناك ممثلون وممثلات في العلوم والفنون والأدب والشعر من مختلف بلاد العالم العربي وبلجيكا وبلدان أوروبية أخرى.
لم يكن ضربًا من الخيال..
لم أكن أسير على تلك الطرقات في سطور كتاب، ولم أكن أشم عبير الشوكلاة في فيلم «لا شوكلاة»، ولا في حلم من أحلام الصحو أو المنام، ولم أكن أجلس في تلك القاعة التي تشبه مدرجات الجامعات والمسارح العريقة على جناح من أجنحة الخيال، بل كان ذلك في مدينة بروكسل، نعم مدينة بروكسل عاصمة بلجيكا، أو بالأحرى عاصمة الفدرالية البلجيكية، وعاصمة الفلاندر، وعاصمة أوروبا.
كان المشهد الأول في السوق الكبير أو «ميدان القصر الكبير» بمبانيه المهيبة التي تعود للقرن التاسع عشر، وبسجادة الزهور الزاهية في تماهٍ مثير مع ذهب الخريف، وبتلك الكنيسة التي تلتقي هندستها مع آية صوفيا في براعة وروعة المعمار, مع اقتران خلاب بين المباني والطرقات العتيقة ومجسد الأوتوميوم العصري ومبنى البلدية.
وكان المشهد الثاني في غالبية شوارع وأسواق بروكسل وقد علق الكثير من غبار الشوكلاة الرافل وأريجها بمعطفي الجملي وشالي العاجي في غدوي ورواحي من الفندق كونكورد الذي كنت ضيفة فيه.
أما المشهد الثالث فلم يكن مشهد المقعد الذي أجلس عليه في نصف استدارة المدرجات التي تشبه مدرجات الجامعات والمسارح إلا في تلك الجلسة الاستثنائية التي كانت تعقد تحت قبة برلمان الاتحاد الأوروبي في مقره الدائم بمدينة بروكسل للاستماع إلى كلمة يلقيها متحدثون عرب في العلاقات العربية الأوروبية بمناسبة استضافت الاتحاد الأوروبي للعالم العربي استضافة سياسية ثقافية كضيف شرف. وكان ذلك في شهر أكتوبر من العام 2009م. وكانت السفارة السعودية بعميد سفاراتنا وقتها هناك الأستاذ عبدالله يحيى المعلمي قد رشحتني كمواطنة سعودية وكامرأة عربية مسلمة لتمثيلنا في تلك الضيافة. وقد قمت بتقديم كلمة في العلاقات السعودية/ العربية الأوروبية ببعدها الثقافي والسياسي في عمقها التاريخي واستشرافها المستقبلي بما يعمل على تجاوز أي توترات في تاريخ علاقات الشرق بالغرب، وبما يعمق التواشج الثقافي، ويعزز السلام حاضرًا ومستقبلاً.
الأجساد والعقول المفخخة أخطر من الحرب..
الحقيقة أنني على اعتيادي لاعتلالي الصحي احتجت لأكثر من أسبوع، وقمت في يومين بابتلاع «علبة باندول» كاملة لألم عظامي وغضبي؛ لأستجمع رباطة جأشي؛ لأستطيع أن أجلس إلى الكمبيوتر، وأكتب الجزء السابق من المقال. فما كنت أخال ولا في المخيلة أنه سيأتي يوم وفي أقل من عشر سنوات على لقاء بروكسل, يعلق فيه بثيابي وأصابعي وسقف حلقي غبار الرماد وشظايا الزجاج ورائحة الدم بدلاً من رائحة الشوكلاة من جراء ما حدث في كارثة بروكسل يوم الثلاثاء 22 مارس 2016م.
فكما كانت - ولا تزال - تعتصر ماء قلبي وبصري وروحي ما وعيت من عمر المدرسة على بشاعته من قتلة الشعب الفلسطيني في مذابح دير ياسين وكفر قاسم ويافا وحيفا وبيسان، وما عاصرته من مذابح تل الزعتر وصبرا وشاتيلا, وما كابدته ونكابده اليوم من مذابح في العراق وسوريا بتلك الأيدي البربرية الغارقة في الدماء وإن تعددت هوياتها العقدية والسياسية والإثنية من الصهيونية الإسرائيلية وجيوش الاحتلال إلى الأنظمة الديكتاتورية والميليشيات الطائفية والتنظيمات الإرهابية من داحس إلى داعش، فقد غاض الماء في عيوني، وتجمد الدم على صمامات قلبي، وجفت حنجرتي من فجيعة بروكسل. لم يأتِ ذلك الوقع العنيف لترويع التفجير لأن بلجيكا من الدول المسالمة في علاقتها بالجالية العربية والإسلامية وحسب، ولكن لأن ضرب بروكسل جاء وقعه على ضميري، مثله مثل تفجير باريس ونيويورك والرياض، أو أي مكان آخر بالعالم جرت على أرضه مصيبة التفجيرات الانتحارية، تعبيرًا عن سادية وماشوسية سياسية ودموية عابرة للقارات وإن كانت عمياء. وهي تروم أن تطول كل ما تصل إليه يدها من قوى وضعفاء المجتمع العالمي بأسره، لا تفرق بين صديق وعدو، ولا بين عسكريين ومدنيين، ولا بين التنكيل بالذات والتنكيل بالآخر.
سلاااااااااام لبروكسل
سلام العالم سلام لنا
وإذا كان قد بزغ علم الاجتماع السياسي كحقل معرفي مستقل بالخروج من معطف الحروب المعاصرة، بعد أن تطورت المصنعية الحربية وتبعًا لها أشكال الصراع وأشكال عقيدة الهيمنة, فلم تعد المواجهة بين الجيوش المتحاربة وحسب، بل صارت تدخل المدنيين عنوة، شاؤوا أم أبوا، في ويلات الحروب كما فعلت قنبلة هيروشيما ونجزاكي التي محت ملامح وعظام وأرواح المدنيين من سكانها, فإن كافة علوم المعرفة السياسية والعسكرية والأمنية مطلوب أن تستنفر اليوم لقراءة وتحليل ظاهرة الحرب الانتحارية التي تبتلى بها التجمعات الأهلية والمدنية للمجتمعات، وليس الدول وحسب. فهذه الحرب الانتحارية وإن تسمت باسم الإسلام وبأشد أشكال الأحادية والانغلاق، وإن أيضًا صدرت من بلاد عربية وإسلامية، فإنها صناعة تجمعية واسعة النطاق الجغرافي والبذور التاريخية في التعبير عن أزمة سياسية داخلية وخارجية بما هو أبعد من الحدود الإقليمية لبلدان التجميع والتصدير.
وليس أخيرااااااااااااااا
وهذا الموقف ليس تنصلاً من حروب انتحارية نشأ رهطها الأعظم ومنظروها ووقودها في أحضان أنظمة ومجتمعات عربية وإسلامية، خوفًا أو تجنبًا لاتخاذ موقف نقدي ذاتي شجاع، ولكنه تأمل وتفكر في ظاهرة وحشية خطيرة يجب مواجهتها بفكر يخرج على الصنوف وعلى المسلّمات والإجراءات الأمنية التي جرى تجريبها منذ إعلان أمريكا الحرب على الإرهاب دون جدوى تذكر.
وأخيرًا سلااااااااام لبروكسل سلااااااااام لكل مكان في العالم لئلا يأتي يوم يقال فيه على الإنسانية السلام.