د. محمد البشر
قد يمر على المرء الكثير من الأحداث، والمشاهدات، والأفكار، التي لا تلفت له نظراً، ولا تثير عنده فضولاً، ولا تجلب له حزناً أو سروراً، لكن هناك، ما قد يقع في ساعة واحدة، أو يوم واحد، أو عدد أيام تطول أو تقصر أحداث، تعلق بالذهن، وتبقى ما أراد الله لينتفع بها المرء، أو تذهب سدى كسابقتها.
وفي أيام قليلة مضت لا تتجاوز الأسبوع كانت ثلاث ملاحظات تستحق الكتابة عنها، ففي إحدى القنوات الأجنبية المشهورة، كان لقاء مع أحد علماء الفضاء في برنامج ناسا المشهور، والذي قضى نحو خمسة وثلاثين يوماً في الفضاء خارج نطاق الجاذبية، وسأله السائل عن أهم ملاحظاته فذكر أن هناك خللا ما يحيط بالأرض بسبب انحسار طبقة الأوزون، وأن الغطاء النباتي في الكرة الأرضية أضحى أقل من السابق، وأن ذلك أصبح له أثر ملموس على البيئة، وما كان جديراً يلفت النظر هو إحالة ذلك إلى فقدان التوازن بين النمو الاقتصادي، والسعي إلى تعظيم المنفعة كما تقول النظرية الاقتصادية، سواء كان ذلك التعظيم للفرد أو المجتمع أو الدول، وبين المحافظة على المنفعة من بيئة الأرض التي أعطتنا كل شيء، بينما قابلنا ذلك العطاء السخي بتشويهها وزرع الخلل في قوانينها وتوازنها الذي به نحيا ونعيش ونستمتع، وأننا إذا ما استمرينا في ذلك، فإن سخطها منا سيكون أثره مؤلماً، وسيحد من سعادتنا وبفقدنا علاقة الحب الحميمي غير المصطنع القائم منذ نشوء الخليقة حتى الآن، بين الطبيعة والإنسان.
ملاحظة أخرى جديرة بالذكر كانت في إحدى المجالس العلمية المرموقة، وكان المحاضر عالم اقتصاد أمريكي من جامعة كولمبيا، وسأله السائل عن صحته وهو المصاب بمرض السرطان حمانا الله وإياكم، فأجاب بأنه بقي في عمره خمسمائة يوم فقط، سوف يقضيها مع الأسرة والعمل الدؤوب المتواصل، وسأله إن كان هناك أمل في البقاء أطول من ذلك، فذكر أن ذلك بقدر واحد في المائة، وكان يتكلم بطمأنينة وثقه تحدث في المحاضرة عن الاقتصاد العالمي، وذكر أن ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية من نمو بعد الأزمة المالية قد تراكم معظمه في حسابات وأملاك واحد في المائة من الشعب الأمريكي، ولا شك أن زيادة تراكم الأموال في يد فئة قليلة لا يعمل على زيادة الطلب على السلع والخدمات، لأن المحتاجين إلى السلع، والقادرين على تحفيز الطلب، لم ينالوا من ذلك النمو شيئاً يذكر، ولهذا فإن النمو الاقتصادي لا يعني زيادة الطلب الكلي على السلع والخدمات، كما أشار إلى أن دخل الفرد الحقيقي الحالي في الولايات المتحدة الأمريكي أسوأ حالاً من دخله قبل ستين عاماً رغم ارتفاع دخله الجاري، فإن زيادة التضخم وغلاء الأسعار، لا سيما السلع الضرورية الهامة لدى الفرد العادي، كانت أكثر من معدل دخل الفرد قبل ستين عاما، وهذا يعني خللا كبيرا في توزيع الثروة وعوائق في نمو الطلب المحفز للعرض والنمو الحقيقي، وأشار إلى أن النمو الذي شهدته الولايات المتحدة إنما كان ناتجاً من الضعف الذي شهدته وتشهده أوروبا، وتحدث عن الصين، وما تمر به من انخفاض في نموها الاقتصادي، وأحال ذلك إلى الاضطراب في التحول من الاعتماد على الطلب الخارجي إلى الطلب الداخلي، وزيادة الطلب على الخدمات في الداخل، إضافة إلى ضعف الاقتصاد العالمي بشكل عام، وتحدث عن المصادر الكربونية للطاقة مثل الفحم والنفط والغاز، وغيرها وذكر أن العالم سوف ينصرف عن الاعتماد عليها وأن البدائل النظيفة ستكون هي السائدة في المستقبل، وأشار إلى أن الاعتماد على الفحم عالمياً قد انحسر كثيراً، وسيتلوه النفط والغاز، وأشار إلى اتفاقية باريس العالمية بهذا الصدد، وتطرق إلى أسعار النفط المتوقعة حتى عام 2010، وضرورة استثمار دول المنطقة في بدائل أخرى في أسرع وقت ممكن، وهو ما سارت عليه الإمارات العربية المتحدة، وما بدأت تسير فيه المملكة العربية السعودية.
ملاحظة أخرى تستحق الذكر، فقد كان بجانبي في إحدى المناسبات أحد رجال الأعمال في الهند، ويعتبر أكثر من يملك مصانع للبيبسي كولا في الهند، وسألته عن عدد علب البيبسي التي يبيعها هو فقط في الهند، فذكر أنه يبيع في العام خمسة وعشرين مليار عبوة، وأن البيبسي الدايت نادر الطلب، وأن إنتاج ذلك الكم من العبوات يتطلب مائتين وخمسين ألف طن من السكر، أي واحد في المئة من الاستهلاك الهندي للسكر، وأن كوكاكولا في الهند يبيع نفس الكمية التي يباع منها البيبسي، وأن ما يباع عالمياً من الكوكاكولا، يساوي مره ونصف مما يباع من البيبسي في العالم، وأن هذا ناتج من الطلب الكبير على الكوكاكولا في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن المعلوم أن المملكة تستهلك نحو ثلاثة مليارات من البيبسي، ويعتبر هو المشروب الأول في المملكة، كما ذكر أن التنبيهات عن أضرار المشروبات الغازية لم تؤثر على الطلب هناك، وأن الطلب يزداد.
وهنا أقول إنه من المعلوم أن الشعب الهندي الكريم من أكثر الشعوب إصابة بالسكري، والأمراض الأخرى، وهكذا هو الإنسان في كل مكان ما عدا عدد قليل، يأكل ويشرب للاستمتاع بغض النظر عن الضرر الناجم عن ذلك، بينما ينسى أن الأكل والشرب في الأصل للغذاء وتنمية الجسم والمحافظة عليه ويمكن الجمع بين الاستمتاع وصحة الغذاء بالاختيار السليم.