د. محمد البشر
البحر عميق، وصعب المراسي، مليء بالمفاجآت والعقبات، وبه تيارات بحرية، وعواصف مطرية، وزوابع، ورياح وريح، ورعود وبروق، وأمطار، وأمواج، وليل دامس، وبرد قارس لا ملجأ منه بعد الله الاَّ الله، منه ينشأ السحاب، ويتكاثف الضباب، وعليه تتراكم الغيوم، فوق سطحه تسطع النجوم، إذا هدر أغرق، وإذا ثار أحرق، لا تطيب معه المداهنة، ولا تنفع معه المصانعة.
فيه لين إذا طاب، وإشراق يستطاب، ولؤلؤ ومرجان، وزيوت وحيتان، به بيض اسمه الكافيار، يزيل العنّه عن الكبار، لطيف المعشر، جميل المنظر، تنشر الشمس على سطحه أشعتها فتنعكس على سطحه كبروق لامعة تزرع البهجة في النفوس، فيستريح المرء من ألم الذكريات، ونقد الذات، ويسترخي كأن الدنيا له قد حيزت، يفكر في الفيد، بعد أن نسي القريب والبعيد.
والبحر موجود منذ القدم، وسلوكه واحد قبل أن يخلق الإنسان، لا تغيره الأحوال حتى وإن تغيرت، ويظل ملك الأرض المهيمن على معظم سطحها، وهو موجود بهيئته وطبعه في كل مكان، عبر الأزمان، فهو في الصين كما هو في الهند أو الشرق أو أقصى الأمريكيتين، لم تطوعه التقنية، ولم تغير من مزاجه ما حل بطبقة الأوزون من تشويه كما يزعمون، يعيش متبختراً صامداً، إن أثاره تسونامي من باطنه، طغى على سواحل الأرض، وجرف معه كل من يقف في طريقه، ومن رفع نفسه فوق جبل، أما من أبعد عن دربه، لم يصبه أذى، ومن ظن أنه هين لين، وأنه يعطي بلا حساب، فذلك قد جانبه الصواب، وتجاوز حد العقل في فنه.
البحر عميق في وجوده عمق التاريخ، ويحمل بين طياته أصناف المتناقضات لكنه استطاع عبر الزمن المديد أن يحتوي تلك المتناقضات وأن يوفق بينها، وأن يسيرها بطريقته وعلى نهجه، ويفسح المجال لكل مكون من مكونات أن يعمل بحرية وأن يأخذ حقه كاملاً، فتكاثرت الأصناف فيه، وتنوعت المخلوقات السابحة على سطحه أو في أعماقه، وتباينت الألوان، وتمازجت، فصنعت ألواناً زاهية راقية بديعة خلابة، تجذب الرائي وتسلب القلوب، وتمتع من أراد الاحتفاظ بها للزينة.
البحر فيه أول المخلوقات الحية، وهناك ذات الخلية الواحدة البدائية، قبل أن تتطور إلى خلايا متخصصة، وتتكون الأنسجة، وبه الرخويات التي ليس لها عمود فقري ولا عظام، في أصل لمخلوقات ورمز للتطور والتقدم، ونموذج لإبداع الخالق الذي خلق الكون والبشر، وترك هذه المخلوقات في البحر لتكون شاهداً على أصل الحياة والخلية الحيوانية التي وصلت إلى ذلك المخلوق السيد وهو الإنسان الذي أوجده الله فكان آدم عليه السلام وحواء ومنها سائر البشر، وفيه أيضاً مخلوقات كبيرة تعتدي على أقل منها شأناً، كما هي الحال على الأرض، فالحيوانات في الغابات تفترس الأضعف حالاً، والأصغر حجماً، الإنسان قد قلد المخلوقات البحرية والبرية بدرجة أقل، فقام بعض البشر في السيطرة والهيمنة على الأضعف حالاً، بل وقد تجاوز ذلك إلى القتل والإبادة الجماعية مع كل أسف كما هي الحال فيما مضى وما يقع الآن في سوريا وغيرها من الدول.
المملكة بحر من الجود، بحر من الخير، بحر من النماء، بحر ينشر دره فيطال البعيد والقريب، والعاقل واللبيب.
هي بحر الجود الذي لا ينضب، والحلم الذي يطول، ويطول، لكن حذار من التطاول، فإن المساس بالبحر والتهاون به نوع من المغامرة، والسير إلى المكابر، فمن كابر هفا، حتى وأن جاد البحر وعفا، فالعفو له حدود.
حذار حذار فإن الهزير
إذا سيم حسفاً أبى وأمتعض
فإياكم أن تقربوا البحر إذا هاج، والماء إذا ماج، ومن عاد إلى الصواب، فالبحر واسع، وحلمه شاسع، وعفوه ظاهر ناصع.
وفق الله بلادنا وحماها من كل مكروه.