د. عبدالحق عزوزي
رأينا الأسبوع الماضي أن العاصفة الفكرية التي نحن في حاجة إليها اليوم هي التي تكون مدفوعة بروح النقد والعقلانية الراشدة والتنويرية التي تتجاوز الصراعات والأسئلة الخاطئة والفاشلة والتقابلات العميقة،
وهي التي توازن بين الرؤية الثباتية والرؤية الحركية التي تشخص وتؤثر على الذات في نظرة تجمع بين التحليل والتركيب والنقد والإصلاح والمنهج والرؤية لبناء نظام عقلاني تنويري عربي جديد ونظام معرفي وهاج يبعث الحياة في العقل العربي. العاصفة الفكرية التي نحن في حاجة إليها اليوم هي التي تهذب الذات من رواسب اللاعقلانية وتروض الإنسان العربي على المفاهيم العقلانية لاستنباتها استنباتا داخليا.
فالذي نحتاج إليه في وطننا العربي بعد الخراب المدمر الذي نراه اليوم في العديد من الأوطان هو «صنع ما ينبغي أن يكون» على أساس «معرفة صحيحة لما كان» بدفع عجلات الفكر العربي قدما إلى بر العقلنة وبتر تلك المتعلقة برواسب اللامعقول فيه وتفريغه من بطانية الانفعالية. فإصلاح العقل توطئة لازمة لإصلاح ما اعوج في الأوطان والساسة ونبقى أوفياء للعقل، ولكن نضيف إليه العلم لإعادة بناء الوطن العربي في إطار من الوحدة كما نجد في الأبيات المنسوبة للحارث المحاسبي القائل:
علم العليم وعقل العاقل اختلفا
من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال أنا أحرزت غايته
والعقل قال: أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له
بأينا الله في فرقانه اتصفا
فبان للعقل أن العلم سيده
فقبل العقل رأس العلم وانصرفا
إن إصلاح أداة التفكير والتغيير السياسي والمجتمعي وإصلاح المنظومة العربية على أسس سليمة ومعقلنة من الضرورات الملحة.
ثم إن المشكلة المستعصية الأخرى التي ليس لها من دون الله كاشفة هي تواجد المشاحنات الطائفية والمذهبية، والبيئة النفسية المسكونة بالغبن والحرمان والظلم في العديد من البلدان كالعراق، والتي سمحت لكي يخرج من جوفها فيروسات إرهابية عابرة للحدود والقارات كداعش، حيث إن نماءها أسرع من أخطر فيروس معروف في مجال الطب، حيث تبلع وما زالت تبتلع مساحات شاسعة في ظرف أسابيع معلومات.
ونحن نتحدث هنا عن عاصفة الفكر، ومهما كتبنا عن الأسباب والمسببات التي تمزق النسيج المجتمعي والسياسي لبعض الدول وتساهم في تفكيكها بل وتدميرها، فإن كيفية معالجة هاته الويلات دائما ما تكون مبتورة في تحاليل الكثير منا، ولا نعطيها حقها، كما أننا لا نؤصل لبشائر الجواب عن مسائل المستقبل، مستقبل الدولة العربية المنفتحة والتنموية والوحدوية. ولنأخذ هنا مثال العراق. فالتجربة السياسية المريرة التي مر ويمر منها البلد لما بعد صدام، ومهما قلنا عن حقبة رئاسة المالكي التي تقوضت، وهو رجل غير مأسوف عليه، لا نعطيها حقها في التشخيص وتوصيف العلاج. وهي المشكلة التي عندنا في الوطن العربي حيث إننا لا نقطع إلا أجزاء قليلة من الفيروس، أو لنقل لا ندخل إلى كنه المشكل لكي نجري عليه عملية جراحية استئصالية ليبرأ الجرح بصفة نهائية بل نسكنه وننومه، لكي تمر الموجة الاحتجاجية بسلام، قبل أن يخرج الفيروس متعافى أكثر، وليتوفر على مضادات حيوية تبقيه بعيدا عن أي علاج.... ففي العراق ذهب المالكي، ولكن هل انتهت معه أزمة النظام السياسي، وأزمة الدولة والكيان الوطني في بلاد الرافدين؟ لا. والجواب على كل هذا يلخصه المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز عندما ألقى بهاته التساؤلات على أزمة عميقة في العراق لم يكن عهد المالكي إلا واحدا من نتائجها، «والأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها، وإلا ولدت أخرى إن بقيت أسبابها التكوينية والعلاجية من دون علاج أو الأزمة في العراق أمس واليوم، أزمة كيان أو أزمة الدولة الوطنية، التي قوضها الاحتلال الأمريكي وأعاد تركيب النظام السياسي فيها على أسس تفكيكية تضع القواعد والأسباب لتوليد أزمتها باستمرار. ولأزمة الدولة الوطنية في العراق اليوم مظهران وعنوانان: أزمة النظام السياسي القائم على الاحتصاص («المحاصصة») الطائفي والمذهبي والإثني، وأزمة الغزو «الجهادي» التكفيري الخارجي الذي يمزق النسيج الاجتماعي العراقي. (....) ولا يظنن أحد أن الرد على ذينك الخلل والهندسة يكون بتعديل الميزان وتغليب كفة فريق على فريق، أو بالنصفة في قسمة الحقوق الطائفية والمذهبية والإثنية، وإنما يكون بالخروج عن هذا النظام العصبوي برمته إلى نظام وطني جامع قائم على علاقات المواطنة والاندماج الاجتماعي والوطني، وليس ذلك بعزيز على العراقيين- ولا غريب عن تاريخهم السياسي المعاصر- إن اجتمعت إرادتهم على ذلك، واستقلوا بقرارهم السياسي والسياديقد تطول الطريق إلى هذا الهدف، لكنها وحدها السبيل إلى إعادة بناء الوطن والدولة وعن أقطار التفكك والتقسيم والحرب الأهلية التي تقترحها الطائفية والمذهبية على البلد وشعبه». فالخلل المجتمعي والهندسة السياسية الخاطئة هي التي خلقت وما زالت تخلق اتجاهات عصبوية دموية في دول عديدة كالعراق وليبيا، أو مسارات سياسية خاطئة بسبب قلة الوعي وتلوث المجال السياسي العام وضعف التجربة الديمقراطية عند الناخب والمنتخب، وغياب أحزاب سياسية ثورية ديمقراطية كان بإمكانها إصلاح ما اعوج في المسيرة الاقتصادية والتسوية الاجتماعية والإقليمية والسياسية، فتسللت بذلك الأطياف الإسلامية بكل أنواعها إلى قيادة المد الشعبي بفضل شبكاتها الاجتماعية وقوة تنظيمها الداخلي واستثمارها في الرصيد الديني، وبعضها لم يكن متسلحاً بالعقلانية والديمقراطية السياسية، وقبول الآخر، والاقتناع بأولويات الأولويات في نماء دول ما بعد الانهيار السلطوي، فكانت الكارثة كما هو شأن مصر مثلاً.
أكثر من أربع سنوات مرت على العديد من دول ما سماه البعض بالربيع العربي» أفضت إلى ما دون الأهداف المعبر عنها وإلى طابع غير مكتمل «لوضع ثوري معياري» جرى في البداية في ريح طيبة، ريح الحرية والتغيير، ريح نسائم الانقضاض على مأزق الحالة السلطوية المتحكم، قبل أن تأتي ريح عاصف، وأمواج «زخم سوسيولوجي» من كل مكان، أحاطت بالشعوب وبالسياسة على السواء، فكثرت العمليات الإرهابية وزادت حدة التوترات السياسية، والانقسامات المجتمعية بل والقبلية مهددة الصيرورة الثورية، بل وقابرة لها في بعض الأحيان، ليذهب سدى نضال شباب ورجال ونساء وأطفال كانوا قد خرجوا إلى الشوارع والميادين لتغيير مسار التاريخ السياسي لدولهم.
ففي هاته الحالة، وفي بيئة انتقالية معقدة تنتقي أهداف الحوار بين ممثلي الأطياف السياسية والمجتمعية وتتوقف، وحتى إذا كان هناك حوار فلا يقود إلى نتائج إيجابية مشتركة: (أقول له: عمرو... فيفهم خالدا ويكتبها زيداً... وينطقها سعداً...)، فالحلبة السياسية بعد الثورة تصبح معركة صعبة تجتمع فيها التناقضات السياسية والفكرية والإعلامية النخبوية والشعبوية الهدامة ونزاعات على السلطات والمناصب والتاريخ والمستقبل، ولله عاقبة الأمور.
ويميز محمد الاخصاصي في خضم هاته المخاضات العسيرة بين ثلاثة مخاطر حقيقية، من شأنها تهديد الانتفاضات الشعبية في ذات تطلعاتها السياسية ومطامحها المجتمعية: خطر الاسترداد، وخطر الاستتباع وخطر الانقسام وأضيف هنا خطراً رابعاً هو خطر الانهيار التام، الذي يمكن أن تصل فيه دول إلى نقطة انهيارية حيث لا دولة ولا مؤسسات على شاكلة التجربة الصومالية. وواقع «اللادولة» هاته هو أكثر من خطر الانقسام، وأكثر من الهشاشة، بل هو زلزال عام لا يبقي ولا يذر، تضيع فيه مصالح الخاص والعام، وتندثر عوامل السيادة، وتفقد الدولة مكانتها بين مصاف الدول. وهي مرحلة يمكن أن تصلها دول مثل ليبيا أو حتى سوريا على المدى المتوسط والبعيد (فلا أحد يمكن أن يتنبأ بالمستقبل السياسي للبلد، سواء بقي بشار الأسد في الحكم أو لم يبق).
عاصفة الفكر تقتضي منا أمانة تسمية الأسماء بمسمياتها، ووصف ورصد الوقائع كما هي، فعامل الثورة لم يعط نتائجه سواء كان التغيير بتدخل أجنبي (العراق) أو من خلال الثورة الشعبية (كمصر، تونس) أو مشفوعة بالثورة والتدخل الأجنبي في البداية (كما هو شأن تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا) فلا يوجد لحد الساعة نموذج ثوري ناجح في الوطن العربي، وغاية ما هنالك فراغ مؤسسات واستقطابات على أسس مذهبية وطائفية ومصالح ذاتية، وصراعات لا متناهية.