د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن كتبنا في هاته الصحيفة الغراء أن الرؤية الشخصية لصانع السياسة، أو الخبير الإستراتيجي يجب أن تتضمن نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويماً مسبقاً لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار بلاده في المستقبل.
ومع أن الخبير الإستراتيجي يعترف بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو دقيق، فإنه يعتقد بأنه يمكن التأثير فيه، وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل. وإذا قلنا إن الإستراتيجية لصيقة بالمستقبل، فلأنها تُعنى به، وتحاول تجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو ردعها أو حلها، وهذا هو عمل الإستراتيجي وشغله الشاغل، ويكفي الرجوع إلى تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة لتمثل ذلك؛ ففي مجال الإستراتيجية الحربية والأمنية، يطلب منا القرآن الكريم أخذ الحذر والاستعداد لكل المخاطر المستقبلية الممكنة التي هي في علم الغيب، والتي بإمكانها أن تقع؛ فيقول الحق عز وجل: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (سورة الأنفال، الآية 60). فأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يجعلوا الاستعداد للحرب التي علموا أن لا مندوحة عنها لدفع العدوان والشر، ولحفظ الأنفس ورعاية الحق والعدل والفضيلة، بأمرين: أولهما، إعداد جميع أسباب القوة لها بقدر الاستطاعة؛ وثانيهما، مرابطة فرسانهم في ثغور بلادهم وحدودها، وهي مداخل الأعداء ومواضع مهاجمتهم للبلاد، والمراد أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها، إذا فاجأها العدو على حين غرة قاومه الفرسان، لسرعة حركتهم، وقدرتهم على الجمع بين القتال، وإيصال أخبار العدو من ثغور البلاد إلى عاصمتها وسائر أرجائها، ولذلك عظَّم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها. وهذان الأمران هما اللذان تعول عليهما جميع الدول، إلى هذا العهد الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية وعتاد الحرب إلى درجة لم يسبق لها نظير، بل لم تكن تدركها العقول ولا تتخيلها الأفكار.
ومن المعلوم بالبداهة أن إعداد المستطاع من القوة، يختلف امتثال الأمر الرباني به باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه، وقد روى مسلم في صحيحة عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول: «ألا إن القوة الرمي «قالها ثلاثاً»»، وهذا كما قال بعض المفسرين من قبيل حديث «الحج عرفة»، بمعنى أن كلاً منهما أعظم الأركان في بابه، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كلَّ ما يُرمى به العدو من سهم، أو قذيفة منجنيق، أو قذيفة بندقية أو مدفع أو طيارة، وغير ذلك، وإن لم يكن كل هذا معروفاً في عصره (صلى الله عليه وسلم)، فإن اللفظ يشمله والمراد منه يقتضيه، وحتى لو كان قيَّده بالسهام المعروفة في ذلك العصر، فكيف وهو لم يقيده.
بُعد النظر في بيئة جهوية ودولية معقدة يطبعهما الشك وعدم اليقين هو الذي دفع بأصحاب القرار للبدء في فعاليات تمرين «رعد الشمال» بالمنطقة الشمالية من السعودية بمشاركة عشرين دولة عربية وإسلامية. وهذا التمرين هو التمرين العسكري الأكبر من حيث عدد الدول المشاركة ومن حيث العتاد العسكري المستعمل من طائرات مقاتلة، فضلاً عن مشاركة واسعة من سلاح المدفعية والدبابات والمشاة ومنظومات الدفاع الجوي والقوات البحرية؛ والتمرين يأتي كما هو معلوم في ظل تطور التهديدات الإرهابية وما تعرفه المنطقة من انفلات أمني وتدخل أجنبي غير مسبوق. وسبق لي في مناسبات عدة أن تحدثت عن أهمية القوات العربية المشتركة، وقلت مراراً أن تواجدها والتأصيل لها من ضروريات البقاء في زماننا هذا شريطة أن تستفيد من دروس التاريخ ومن تجارب المؤسسات العسكرية الإقليمية الأخرى مما سيمكنها من الاستعمال الأمثل ومواجهة التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي بمختلف أشكاله.
مأسسة هاته القوات في مؤسسة عسكرية وفي حلف قار بأسلحة وبجيوش ومواثيق من البديهيات، كما أن تواجد دول محورية داخلها شرط من شروط النجاح، ولا يظنن ظان أن كل شيء يجب أن ينتهى منه الآن كتابة ومصادقة من الدول، فالتدرج حكمة بالغة ولكن في إطار أصول غير مرتجلة ومعقولة. إذ يجب البناء لحلف عسكري أو لنقل لشجرة عسكرية تأوي القوات العربية المشتركة ذات جذور عميقة وذات أغصان ممتدة، ترعاها دول محورية تتمتع ببعد النظر وبالمسؤولية وبسعة الصدر ونكران الذات. ولنضع هنا إطلالة سريعة عن تاريخ الحلف الأطلسي لنفهم أن الإستراتيجيات الحلفية العسكرية تتغير، والمصالح دائماً ما تكون متناقضة ومتعددة، والتوافق مع ذلك يكون ممكناً ما دام أنها مؤسسة قائمة بذاتها إلى حد أنها يمكن مع مرور عقود من الإنشاء أن تستوعب المزيد من الدول الأعضاء الجدد.
الحلف الأطلسي هو واحد من المؤسسات العسكرية الأكثر تنظيماً في العالم، والأكثر قوة وقدرة على التدخل بفضل قوة الدول الأعضاء، وهي تضم 28 دولة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وفرنسا... ومن بين الدول الأخيرة التي انضمت إليها نجد ألبانيا وكرواتيا. ومن بين أهداف المنظمة تثبيت السلم في القارتين الأمريكية والأوروبية، أي مناطق تواجد دول أعضائها، وتجذير أسس الدفاع المشترك تحسباً لكل خطر خارجي. ويتوفر الحلف على قدرات عسكرية تمكنه من التدخل العسكري، ولكن أهم ما يمكن أن يلحظه أي متتبع للشؤون الإستراتيجية والعسكرية في ميثاق الحلف المؤسس، هو أن الهجوم على أي دولة عضو، يعتبر بمنزلة هجوم على كل الدول؛ وهو ما يمكن أن يسمح بتدخل جماعي لدول أعضاء الحلف. وهذا ما تشير إليه المادة الخامسة من معاهدة واشنطن، أو ما يسمى أيضاً بمعاهدة الحلف الأطلسي، وهي المادة التي استعملت بعد الأحداث الإرهابية لـ 11 شتنبر 2001.
الحلف أنشئ سنة 1949، لضمان السلم في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت هناك دولتان تحت مجهر الحلف الدائم.: ألمانيا والاتحاد السوفياتي البائد. في سنة 1991 كان الاتحاد السوفياتي قد انهار، وروسيا الجديدة بدأت تعيش أزمة اقتصادية خانقة؛ ولكن ابتداء من هاته السنة ظهرت حروب يوغسلافيا التي دامت عشر سنوات، أولاً في سلوفانيا، ثم في كرواتيا، ثم في البوسنة، ثم في كوسوفو، وأخيراً في مقدونيا. وتدخل الحلف الأطلسي في البوسنة سنة 1995 ثم في كوسوفو سنة 1999. ابتداء من سنة 2001 سيتدخل الحلف ولأول مرة في حرب غير نظامية وهي الحرب ضد الإرهاب، وبالضبط في أفغانستان، وهي أول عملية عسكرية للحلف خارج نطاق المنطقة التي كان عليها مدار خلق الحلف (أوروبا وأمريكا).
كما أن الحلف ظل يتأقلم مع كل المستجدات؛ ففي سنة 1991 بدأ المنحى العقلاني يتجه إلى توسيع المفهوم الإستراتيجي ليشمل كل دول أوروبا بما في ذلك الدول التي كانت في الزمن القريب تعد عدوة؛ في سنة 1999، تمت المصادقة على نص بموجبه تم إدماج الإرهاب كخطر يسمح للحلف بالتدخل العسكري؛ وفي سنة 2010 صادق الحلف في ليزبون على مفهوم إستراتيجي يعطي الضوء الأخضر للحلف بحماية ساكنة دول أعضائه داخل وخارج منطقة الحلف الأطلسي. فأدوار الحلف لم تعد إقليمية أو متموضعة في منطقة دول أعضائه، وإنما بدأت تتوسع مع مستلزمات اللحظة الإستراتيجية لتشمل مناطق متوزعة في أنحاء العالم.