د. حسن بن فهد الهويمل
الشاعر العروبي [عمر أبو ريشة ت1410] صَوْتٌ ندي، لم تُؤَوِّبْ معه الزعامات الانقلابية في وطننا العربي المعاق، على الرغم من ملامسته لمشاعر المواطنين بقصائده العصماء، التي تقشعر منها جلود الذين يشفقون على مثمنات وطنهم.
قدري الحميد إسناد تدريس مادة[النصوص الأدبية المعاصرة] إلي، في قسم [الليسانس] أكثر من مرة.
وما كنت أتخلى عن تقرير نصين يتواشجان دلالة، وبواعث. هما: [العز والمجد] للشاعر [محمد بن عثيمين ت 1362]، و[أمتي] للشاعر [عمر أبي ريشة] رحمهما الله.
إذ كلاهما يستحضر موقفاً بطولياً للخليفة العباسي [المعتصم].
هذا الموقف فجَّرَ موهبة الشاعر العباسي [أبي تمام] ببائيته التي خلد بها عمل [المعتصم] البطولي.
لقد اعتورت [البائيةَ] مواهبُ الشعراءِ، بقصائد المعارضة، التي احْتلبت أجمل صورها، واستثمرت أدق معانيها.
ولما تزل نجدة [المعتصم] للمرأة المسلمة، التي حاول إهانتها [علج مستهتر] مثلاً يتوسل به الشعراء لتأنيب القاعدين.
يقول [أبو ريشة]:
رُبَّ وَآمُعْتَصِمَاهُ انْطَلَقَتْ
مِلْءَ أَفْوَآهِ البَنَاتِ الْيُتَّمِ
لامَسَتْ أسْمَاعَهُم لَكِنَّهَا
لَمْ تُلاَمِسْ نَخْوَةَ المُعْتَصِمِ
وكم من نداء، ونُدْبةٍ، وتَوَجُّعٍ، انطلقت مِلْءَ أفواه المقهورين، ولكنها ضاعت أدراج الرياح.
[أبو ريشة] المتشائم إلى حد اليأس مات، وفي نفسه حسرة الإفلاس، والقنوط. وكأني به يردد في عالمة الآخر:
يَابْنَ عَبْدِ العَزيِزِ وانْتَفَضَ العِزُّ
وأصْغَى، وَقَالَ: مَنْ نَادَآنِي
قُلْتُ: ذَاْكَ الجَرِيْحُ فِي القُدْسِ
فِي سِيْناَءَ فِي الضِّفَّتَينِ في الجَوْلاَنِي
ولكن [ابن عبدالعزيز] استُشْهد، وهو يجاهد بالكلمة القوية، في كافة المحافل الدولية امتثالاً للتوجيه الرباني:- {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، وحين رثاه [أبو ريشة] جَسَّد خسارة الأمة بقوله:
يَارَبِّ أمْرُكَ هَذاَ لَا أُطيقُ لَهُ
رَدَّاً فَأَمرُكَ يَارَبّيْ تَوَلَّانِي
أَعْيَا خَيَالِي فَلَمْ أُدْرِكْ مَصَادِرَهُ
مِنْ أيِّ صَاعِقَةٍ مِنْ أَيِّ بُركَانِ
يَارَبِّ حَسْبي، وَأنْتَ اليَوْمَ مُغْرِقُهَا
إن قِيْلَ: أَغْرقتَ فيها خَيرَ رُبَّانِ
الملك [فيصل] رحمه الله، قضيته الأولى التي استشهد من أجلها تحرير القدس من رجس اليهود. فلقد أضر بجسمه، وفكره ما يراه، ويسمعه من تعديات يهودية على مقدسات إسلامية.
ومنذ عهد المؤسس، حتى عهد الملك [سلمان] لم تتوان المملكة في نصرة المضطهدين من أبناء الأمة العربية، والإسلامية.
وحضورها الفاعل معلوم من السياسة بالضرورة، ولا ينكر شيئاً منه إلا جاحد، معاند، لا يعرف لذوي الفضل فضلهم.
نعم. [المملكة العربية السعودية] جزء من العالم، وهي محكومة بعهود، ومواثيق، والتزامات، وقعتها طائعة، مُختارة تحت قباب المنظمات العالمية.
والتزامُها تنفيذٌ للتوجيه الرباني: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
كما أن المملكة دولة لها مصالحها و[استراتيجياتها]، وقدراتها: الحسية، والمعنوية. وخياراتها ليست مرتجلة. إنها محسوبة بكل دقة، ومدروسة بعناية على كل المستويات، ومستحضرة لكل الاحتمالات.
وهي تعرف مكانتها في عالمها الإسلامي، الذي يُوَلِّي وجهه شطر أرضها، وحيث ما كان أفراد العالم الإسلامي فإنهم يولون وجوههم شطر المسجد الحرام.
هذه الخصوصية تفرض على المملكة سلوكا إسلامياً، وسياسة إسلامية، تبعث الثقة، والاطمئنان في نفوس من تهوي أفئدتهم إلى البقاع الطاهرة.
ومن ثم فإن إقدامَ قادة البلاد، واحجامهم في القضايا المصيرية محكومةٌ بهذه السِّمات التي خص الله بها هذه البلاد، وبتلك المواثيق التي أخذت بها نفسها.
لقد هب الملك [عبدالعزيز] رحمه الله لنصرة الفلسطينيين عام 1948م. وكانت له رؤية صائبة في التصدي للاحتلال، يتمثل في تسليح الشعب الفلسطيني، ودعمه [لوجستيا] وعسكريا للمقاومة، وانتزاع حقه بيده، ليكون معذوراً أمام العالم.
وهب الملك [سعود] رحمه الله، للدفاع عن [الكويت] حين أعلن الانقلابي الماركسي [عبدالكريم قاسم] ضمه إلى الأراضي العراقية بمفارز عسكرية، أقامت في الكويت حتى هدأت الأوضاع، وأذعن العراق للحق.
وهب الملك [فيصل] لنصرة الشرعية [الملكية] في [اليمن]. والحيلولة دون ضياعها في دوامة الانقلابات العسكرية، التي آلت بها، وبالعالم العربي إلى ما هي عليه الآن.
كما تصدى الملك [فيصل] للمد الماركسي. وتبنى مشروع [التضامن الإسلامي]. وحقق الانتصارات عالمية.
وهب الملك [خالد] لنصرة [العراق]، في مواجهة الاعتداء الإيراني.
وواصل الملك [فهد] دعم المجهود الحربي، حتى النصر. كما هب لتحرير [الكويت] في أوسع عملية عسكرية عرفها الشرق الأوسط.
وهب الملك [عبدالله] للحيلولة دون سقوط [دولة البحرين]، و[دولة الكويت] في يد الأقلية الشيعية المدعومة من المجوسية الصفوية.
واليوم نعيش هَبَّاتٍ متتالية تَناولتُ طرفاً منها بشيء من الإيجاز في مقالي: [نِعِمَّا هِي القرارات الحازمة، الجازمة، العازمة].
لقد تجسدت في مناصرة الملك [سلمان] للشرعية في [اليمن] نخوةُ المعتصم، التي خلدها التاريخ، ومجدها الشعر العربي.
وبمثل ما تصدى [الملك فيصل] رحمه الله لـ[المد الماركسي]، وإجهاضه. تصدى الملك [سلمان] لـ[المد الصفوي]، وهو بصدد تَحطيمه على صخرة الصمود، والتصدي، والتحدي.
لقد جَيَّشَ له المشاعر الإسلامية، وأعطى صورة من صور الردع في مناورة [رعد الشمال]. وهي رسالة واضحة، أرجو أن يفهمها بكل تفاصيلها المستهدف بها.
مبادرات المملكة لم تكن مختصرة بـ[عاصفة الحزم]. وإن كانت الخطوة الأولى، والأهم، لقطع رأس الأفعى قبل ذنبها.
[اليمن] سيظل مرتهنا لنزاعاته المتناسلة من معوقاته التقليدية. وليس رهان [المملكة] ومن ورائها التحالف العربي، على نزع فتيل الفتن في اليمن، ولكن هدف [العاصفة] الحيلولة دون استغلاله، ليكون خنجراً في خاصرة المملكة.
و[إعادة الأمل] خطوة سلمية، لكي يفيق [اليمن]، ويتجاوز مرحلة الخطر. وشراذمه الذين يفجرون، ويلغمون، ويخطفون، يرون أن ضمان بقائهم في ظل الفوضى القتالة، الهدامة.
مهمة [التحالف العربي] شارفت على النهاية، لتتلقى الحكومة الشرعية، والمقاومة، واللجان الشعبية زمام المبادرة، لتنظيف الجيوب، وقمع الفتنة، وإعادة الحياة الطبيعية بالقوة. فما عاد في الوقت متسع للتردد.
إن الذين يفجرون في [عدن]، ويلغمون في [تعز]، ويخطفون في الأودية، والشعاب، ومنابت الشجر، لا يريدون الاعتراف بالواقع، والتسليم له.
والذين يُحَرِّضونهم على الصمود، ويمدونهم بالغي، يريدون تفاني اليمنيين. وما علم المحرض، والفاعل، أن أعمالهم ستكون عليهم حسرة، وأن إنفاقهم سيكون خسارة، وسوف يغلبون.
لقد قدمت المملكة من الدعم المتنوع، والمساندة للشرعية ما يكفي. وعلى العقلاء من أبناء القبائل أن يتحرفوا لإنقاذ ما بقي.
لقد حققت [المملكة] وَمِن ورائِها دول التحالف ما تود تحقيقه، ولم يبق إلا دور الشرعية، والمقاومة.
فويلات الحرب الأهلية المدمرة مسؤولية الحوثيين، وفلول المخلوع. ولا يثنيها عن غيِّها إلا القوى الوطنية.
دول التحالف لن تُجَرَّ قدمُها إلى حرب العصابات، والممارسات الإرهابية، والمناوشات غير النظامية.
محاولات التسلل من الحدود. والمقذوفات المزعجة على القرى السعودية المجاورة. والعمليات الإرهابية داخل الأراضي السعودية، مسؤولية حسمها على المملكة وحدها. وهي قادرة على قطع دابر ذلك كله.
المملكة هدفها أن تكون حدودها، وأراضيها، وإنسانها في مأمنٍ، وأن تَحُوْل دون التدخلات الأجنبية في [اليمن]. لأن لها معه أطول حدود، وأسوءها طبيعةً. وأي تدخل أجنبي سيجعل المملكة في حالة حرب مستمرة. وهي معنية بقطع دابر الفتن التي يمسها لهيبها، والتوفر على أمن حدودها، وسلامة إنسانها.
ومن تصور أن تصعيد الصراعات في [اليمن] سيجر قدم المملكة لخوض معارك داخل اليمن، فقد خاب، وخسر.
نخوة [المملكة] في دفع الظلم الذي تتعرض له الأمة العربية من الخارج. أما حين تستحر [الحروب الأهلية] بين الفرقاء في الوطن الواحد، فإن دور المملكة ينحصر في إصلاح ذات البين، وفك الاشتباكات.
وقد يكون خيار الحرب في أضيق نطاق، امتثالاً للتوجيه الرباني: {وإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا * فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى * تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ * فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
فعندما لا يسْتتب الأمن في اليمن، تكون مسؤولية المواطن اليمني، وليست مسؤولية التحالف.
قدر اليمن تشرذمه القبلي، والطائفي، واستفحال الجهل، والفقر، وقبول الدعم المشروط، ومناسبة جغرافيته للكر، والفر، والكمون.
اليمن لليمنيين، فحين لا تمتد أصابع الشر إليهم، تكون المسؤولية على مكوناته السكانية. فليختاروا ما يناسبهم، ويقيل عثراتهم.
حساباتي الشخصية غير متفائلة. وقد جسدتها في أكثر من مقال، فمنذ سقوط الملكية على يد [السلال]، وأوضاع اليمن في سفال.
والمملكة التي تحملت الكثير من الشهداء، لديها من الخبرات ما يحول دون تورطها في مشاكل اليمن الداخلية.
المملكة حريصة على استتباب الأمن، ومصالحها ألا يظل اليمن مرتهنا للفتن، ولكنها قادرة على النأي بنفسها، وحفظ حدودها، حين لا ينفع النصح، وحين لا يجدي الإصلاح.
ما كان بودنا تفاني الشعب اليمني، واستجدائه قوت يومه، وليلته، وتحوله من يمن سعيد، إلى يمن شقي، مليء بالملفات المستعصية على الحل السلمي.
قدرنا العصيب أنه جار قلق. وأن دَخَنَ الفتن فيه يطالنا شيء منه، شئنا، أم أبينا. ومهما حاولنا اقْتِلاعه من بؤر المشاكل فإنه يعود إليها كما بدأ. وكأن قدره أن يظل نشزاً في سياق أمته.
ولأن قدرنا أن نظل نحجز فئاته عن المواجهات الدامية، فإننا محكومون بمقتضيات المثل العامي: [لابد للحجَّاز من ضربه عصا].