د. حسن بن فهد الهويمل
انقدح هذا العنوان، وذلك الموضوع في ذهني، حين لمحت، وأنا استعرض مقولات البعض من الكتَّاب، حول العلاقة القلقة بين [الإسلام]، و[السياسة]. كقول أحدهم:-
[هو ذلك «الإسلام السياسي» الذي قدم المرة تلو الأخرى دليلاً على أنه نفق مظلم لا تدخله إلا بورطة. ولا تخرج منه إلا بفضيحة].
وتلك مقولة جريئة، مثيرة، حَمَّالة، تحتاج إلى أمراس كِتَّانٍ، تشدها إلى صم العقول العارفة، الحذرة، لتحول دون التهييج، والإثارة، وخلط الأوراق.
المتخبطون في هذه المهايع، يوقضون الفتن، ويوفضون إلى الفوضى، ويُصَدِّعون التلاحم، ويُصَعِّدون الخلاف، ويُعَقِّدون الأمور. لأن مقاصدهم تتباين، ولاتُبِين. ومثيراتهم تختلف، ولا تأتلف. ولسانُ حال الأمة يردد:-
[أَبِنْتَ الدَّهْرِ عِندي كُلُّ بِنْتٍ
فَكَيْفَ خَلُصْتِ أَنْتِ مِنَ الزِّحَامِ]
حتى الذين يودون إصلاح ما أفسدته اللجاجات الخنفسائية، لا ينجون من التصنيف، والإقصاء، والاستعداء. وقد يميلون إلى الحياد، حباً للسلامة، وخلوصاً من الفهم الخاطئ، الذي يُحَمِّلهم ما لا يُحْتَمل.
فكم من كاتب يمتلئ إيماناً، وصدقاً، وغيرةً على حِمَى الله، تلتبس رؤيته على المتسطحين المهتاجين. ثم يكون ضحية لسوء الفهم، وسَوْرة الغضب.
مُعْضِلَةُ المشاهد: الفكرية، والأدبية، والدينية، والسياسية، أنها مصابة بأدواء المصطلحات الإجهاضية، كمصطلح [تأويل الفهم].
وهو مصطلح نسل من رؤية الأسلوبيين، التي أسقطت [سلطة المنتج] بدعوى [موت المؤلف].
وأسقطت [سلطة النص] على الرغم من أنه وثيقة، تقطع قول كل خطيب.
وفوضت [المتلقي] بحيث يستطيع إنتاج ما يريد من دلالات، من خلال النص.
فالنص عند أولئك مثير، وليس مقرراً. وهو الوسيلة لإنتاج نص جديد، يعبر عن رؤية المتلقي.
والعقبة الأعقد، تتمثل في التصنيف، والإقصاء، وتحصيل ما في الصدور. وابتلاء السرائر. والتحصيل، والابتلاء، لا يقدر عليهما البشر.
وكم من كاتب طورد بالسب، والشتم، والاتهام، صاح، وهو يركض برجله، لينجو بما بقي له من رسيس السمعة، قائلاً:- إقرؤوا ما تحت السطور، ولكن لا تقوِّلوني ما لم أقل.
إن هناك مقاصد، ونوايا، وأنساقاً ثقافية لكل متحدث في الشأن العام. قد تُعَرف من لحن القول. ومن حق المتابع أن يتحرى. وأن يتساءل. وأن يمد نظره للسياقات، والأنساق. وأن يمارسَ التبئير.
ولكن عليه الدقة في التحري، والعدل في الحكم، والاقتصاد في التصدي، والاعتراف بحق الآخر، وتمكينه من الإسماع، والاستماع، وتهيئة الأجواء الملائمة للحوار الموضوعي.
ومتى أمكن احتواؤه، فذلك المُبتَغَى، وإلاَّ فلا أقل من الإبقاء على الحوار، وتفادي الصدام.
التجاذبات القائمة بين المفكرين الإسلاميين على مختلف مستوياتهم، وانتمآتهم، واضطراب مفاهيمهم، وسائر التيارات: [العلمانية]، و[الليبرالية]، و[الديموقراطية] و[الحداثية] وغيرها. يقوم غالبها على الإقصاء، وتبادل الاتهامات، ونزع الثقة، والأهلية، ومصادرة الحق المشروع. لا أستثني من المقترفات أحداً.
فالأطراف كلها في ظل الاحتقانات، والتعصب المذهبي، تقتسم تبعات الفشل الذريع الذي أودى بكل المثمنات الفكرية، وبطَّأ بالحلول التوافقية.
لقد سيئت وجوه الناشدين للحق من هذا الإيغال المسف في وحل الشتائم، والاتهامات. إذ لا وفاق مع أيَّ مجادل ينشد الانتصار، والأثرة، ولا يقول كلمة الحق.
الأمة العربية أمة مسلمة. وما سوى هذا الانتماء يدخل في مفهوم الأقليات. والصعوبة في أن بعض الفئات لا تحسن فهم هذه الخصوصية، ولا تجيد إدارتها.
والعقبة الكأداء تدور حول مفهوم [الأسلمة]. إن هناك عقبات صنعها الإسلاميون، وعقبات أشد، وأعتى، صنعها المناوئون لهم. والناصحون من يعمدون إلى تذليل تلك العقبات، واحتواء نثار الاختلاف.
أزمة عالمنا المضطرب تكمن في: مراوحة [الاجتهاد] بين الحظر المطلق، والحرية المطلقة، لمن يملك حق الاجتهاد، ولمن لا يملكه.
وفي مراوحة [التأويل] بين المعقول و[اللامعقول].
وفي غياب [المنهج].
وفي خطأ تنزيل الحكم على الواقعة.
فـ[الاجتهاد] ضرورة أزلية، لتمكين الأمة من مواجهة النوازل، واحتواء المتغيرات، والتوفر على سمة الإبداع، دون الابتداع.
فالإبداع يعني التجديد في ظل المقاصد. والابتداع يعني التبعية في ظل المخالفة: إما للنص، أو لمقتضياته، ومقاصده.
و[التأويل] هو الآخر ضرورة، فالنص حَمَّالُ أوجه. لا يقتصر على الدلالة الوضعية. فالدلالة تُستقى من المعنى الوضعي، أو من المعنى المجازي، أو من المعنى السياقي.
ثم إن [المعنى] يراوح بين الخصوص، والعموم. والمحكم، والمتشابه. والتقييد، والإطلاق. والتعارض، والتوافق. والاختيار، والإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}، والاضطرار: حسِّي، ومعنوي.
ولما كان القلب هو الملاذ الأخير للإيمان، فقد حال الله بين المُكْرِه والوصول إلى ما فيه.
أما عن غياب [المنهج] فحدث، ولا حرج. فالكتبة المتعالمون، والمؤلفون الجَمَّاعون، والمتحدثون المتشدقون، يهرفون بما لا يعرفون.
والإسلام بوصفه شرعة، ومنهاجاً، يتطلب الاستبانة، ومعرفة مواقع الأقدام. ولا يمكن لأي رؤية فكرية أن تبدو سوية دون التوسل بالمنهج، والمرجعية، والتصور، لتحرير المسائل، وتقرير المعارف.
ولك أن تقول ما تشاء عن [تنزيل الحكم على الواقعة]. ذلك أن الآية المحكمة، والحديث الصحيح يحملان الأحكام الواضحة، ولكن المتلقي لا يحسن إنزال الدليل على الواقعة. وهذا منشأ الخلاف بين كل الأطراف.
والأمة الإسلامية ممثلة بعلمائها، وإعلامييها، ومفكريها، وساستها مطالبةٌ بوعي المرحلة، ومتطلباتها.
ولتحقيق الوعي فهي مطالبة باستحضار [فقه الواقع]، لتفادي خطأ التنزيل. و[فقه الأولويات] لتفادي خلط الأمور، و[فقه التمكين] لإتقان لغة التفاوض، إضافة إلى [فقه الأحكام] المستبد بالمشهد.
و[فقه الأحكام] هو أس التعددات الفقهية، لا يُستغنى عنه، ولا يُستغنى به. ومشكلة الأمة أنها منشقة حوله. فمن المتنفذين من يجهله، وتلك طامة كبرى، ومنهم من يستغنى به، وتلك طامة أكبر.
فقهاء الأحكام كـ[فنيي المختبرات] يأخذون العينات، ويُخْرِجون النتائج. والأطباء هم من يُفَعِّلون النتائج. فلا قيمة لجهود [الفني] بدون [الطبيب]، ولا قيمة لـ[الطبيب] بدون نتائج [الفني]. والطبيب هو السياسي.
الحلقة المفقودة أننا نضع أيدينا على معطيات المفسرين، والمحدثين، والفقهاء، والأصوليين. ثم لا نحسن تصريفها، ولا استثمارها. مثلنا كمثل [الطاهي] الفاشل، الذي يمتلك كل المواد، ولكنه لا يحسن الطهي.
ومثلما يقع الإسلاميون في الأخطاء، يقع غيرهم فيما هو أسوأ. ولاسيما أن [الاستشراق]، و[التبشير]، و[الاستعمار] يشِيعُون الأكاذيب، ويصدقها المستغربون.
إنهم يَدَّعون أن [التنوير] الذي أنقذ [أوروبا] هو عينة الذي يحتاجه العالم الإسلامي. كما يدعون أن تخلف المسلمين من الإسلام. ما سبق بعض إشكاليات الجدل حول السياسة.
[الفكر السياسي الإسلامي] مُوَثَّقٌ بمئات الكتب القيمة. والعلماء تداولوه مقروناً بالتجارب العملية. وبعض الحكام توسلوا بشيء منه، للسيطرة على الرأي العام المشحون بالعاطفة الدينية.
ولكن أحزاباً، وطوائف، ومنظمات حَوَّلته من فكر مَوَجِّه، إلى حركة مصادمة. تُقَلِّبُ مصطلحات فاقعة اللون: كـ[الحاكمية] و[الخلافة] و[ظل الله]. وأخيراً [ولاية الفقيه].
لقد احتربت فيما بينها من أجل اختلاف المفاهيم. وخرجت بهذا الفكر من رؤيته القائمة على السياسة الإسلامية إلى الرؤية القائمة على الإسلام السياسي.
ومعضلة المصطرعين أن الإسلام مبدأ. والسياسة إجراء. وليس بالإمكان ربط المبدأ الثابت بالإجراء المتغير. ومن الممكن استضاءة الإجراء بالمبدأ.
ولكي أشرح المقتضى شرحاً [سبورياً] أقول:- [الإسلام السياسي] يعني اختصار الإسلام في السياسة. ونفي تجارب الآخرين، الذين جسدوا السياسة عملاً مؤسسياً، ينطوي على مقاصد إنسانية، يحترمها الإسلام.
و[السياسة الإسلامية] استنارة السياسة المدنية الإنسانية بالإسلام الإلهي، ولاسيما أن الإسلام: دين ودولة. والدولة مدنية إسلامية.
فالإسلام بطبعه شمولي، والسياسة مفردة من مفرداته. ولا يكون هو مفردة من مفرداتها. فالإسلام السياسي، والحكومة الدينية الطائفية، [الثوقراطية] تقزيم للإسلام.
القول بـ[الإسلام السياسي] يعني قطعه من كل العلائق الأخرى، وحرمانه المتعمد من الشمولية.
ومثلما أن هناك فرقاً بين الدولة الدينية، والدولة المدنية الإسلامية، فإن الفرق أشد وضوحاً بين الإسلام السياسي، والسياسة الإسلامية.
أحسب أنني استطعت إزالة اللَّبس حول هاتين الجملتين. وأبنت الفرق الكبير بينهما. عندئذ دعونا نستذكر الجدل القائم عند بعض [البرلمانات العربية]، حول جعل الإسلام المصدر الوحيد للدستور. أو جعله المصدر الرئيس. أو إقصائه، فلو كان المصدر الوحيد لعطلنا حديث:- [أنتم أدرى بأمور دنياكم]. ولو أقصيناه، لوقعنا بـ[العلمانية الشاملة].
المتخوفون من هذا، وذاك، لا يضعون في اعتبارهم أن الإسلام استوعب خلاصات التجارب الإنسانية، وأنه يمثل القاسم المشترك بين الحضارات الإنسانية.
وهو إذ يتسع لهذه التجارب، يكون قادراً على قبول الرأي الآخر، ما لم يناقض المقاصد الإسلامية القائمة على توفير المصلحة للإنسان.
مبدأ الخير المطلق، والشر المطلق في المنجز الإنساني مستحيل. الإسلام بوحييه خير مطلق، وبتطبيقه يختلط بالمنجز الإنساني، ومن ثم لا يملك ما يملكه الإسلام بوحييه.
الخليفة الراشد [عمر بن الخطاب] ربما يكون الأكثر معرفة بالمقاصد، والمصالح المرسلة، والأكثر ركوناً إليها في مواجهة النوازل.
ولهذا طنطن البعض حول هذا، وعدوه مخالفاً للنصوص الشرعية.
لقد قالوا حين ألغى صنف [المؤلفة قلوبهم]، ومنع حدَّ [القطع]:- إنه عطل بعض الأحكام. والحق أنه أخذ بدرء الحد بالشبهات، ولم يعطله. ودار مع العلة حيث تدور. فالحدود لا تقام حتى تستكمل شروطها، ومن ذلك الفاعل المتأول، لا يحد. كالذي يتزوج بعقد لم تكتمل شروطه. وتأليف القلوب في زمن الضعف.
لقد توقف الرسول صلى الله عليه وسلم عن تصويب، أو تخطئة المجتهدين الذين اختلفوا في فهم مقتضى الأمر، وهو بهذا يشرع لأمته حين تختلف في اجتهاداتها.
الذين يتوسلون بالمستجد من المذاهب السياسية، لإنقاذ الأمة الإسلامية من تخلفها، واضطراب المفاهيم عندها، وجعلها البديل، يزيدون في التعقيد.
والذين يُقْصون معطيات المستجد من المذاهب، بحجة الاستغناء، يقزمون أنفسهم، ويفوتون فرصة الاستيعاب، وتعطيل مقتضى حديث:- [الحق ضالة المؤمن].
ومثلما أننا مطالبون بالامتثال، فإننا مطالبون بالتجديد، واتباع أحسن ما نرى، ونسمع.
والإرث الإنساني مصدر من مصادر التجديد. ومن المسلمات أن المذاهب، والأحزاب ليست خيراً محضاً، وليست شراً محضاً. ومن الخير استغلال القواسم المشتركة.
فما وافق مقاصد الإسلام فهو ضالته، وما خالفه أمكن الاستغناء عنه بما هو خير. وليس من المصداقية، ولا من العدل الحكم بالفساد المطلق على المستجد الإنساني. وكيف يتأتى ذلك، والإسلام جاء لإتمام مكارم الأخلاق القائمة من قبل.
الإسلام: حضارة، ومدنية مواكب لكل الحضارات السابقة. والمواكبة، والحضور الكريم يستدعيان تبادل الخبرات، والمصالح، والعمل على إسعاد الإنسانية.
وقدرته على الاحتواء تتمثل في تسامحه، وإجارته، وضمان الأمن لمخالفه، امتثالاً لقوله تعالى:- {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}.
وكيف تتأتى القطيعة المطلقة مع الآخر، ودستورنا الخالد يُحِل لنا نكاح اليهوديات، والنصرانيات، وأكل طعامهم.
إن هذا إشعار بأهمية التعايش في ظل الحب الجِبِلِّي، والمصالح المتبادلة، والتعاون على عمارة الكون.
والركون إلى الذين ظلموا، تَحُدُّ من عموميته العهود، والمواثيق التي توقع تحت قباب الهيئات، والمنظمات الدولية. وقد تحفظت المملكة على بعض البنود بما يكفل إسلاميتها.
وعلى المهتم بتقصي [الفكر السياسي الإسلامي] تتبع [الأحكام السلطانية]، و[الإمامة]، و[الخلافة] عند [الفراء] و [الماوردي]، و[القزويني]، و[المرتضي]. مروراً بـ[الإسلام وأصول الحكم]، وماكتب حوله. وانتهاء بما كُتب عن النظم، والنظريات السياسية في الإسلام. ومادار حول المصطلحات المثيرة. كـ[الخلافة] و[الدولة: الدينية، والمدنية]، و[الولاية]، ففي ذلك شفاء لما في الصدور.