د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ساد الشعراء زمنًا ثم انحسروا، وعلا شأو النقاد فترةً وتواروا، وصار الحديث للروائيين وآذنوا بغياب؛ ليبقى التوازنُ بين الأنماط الثقافية أدنى إلى القبول؛ فقد تجاوروا على مدى التأريخ وتحاوروا، ولم يلغِ أحدٌ أحدًا، وبقيت القصيدة والمقالة والقصة والرواية والدراسة، وخلد منها ما يستحق البقاء.
**يسيرٌ علينا استدعاءُ لغة « الإحياء والإماتة « لتوصيف مرحلةٍ أو منتجٍ أو شخوص، وقد ننسى أنّ الناس أمزجة والحياة تنوعٌ والإبداع إمتاع، ولا ضير من الجمع بين الأجناس أو الانفراد بأحدها وللمستقبِل الاختيارُ والقرار وليس لغيره أن ينوب عنه في الرفض والفرض.
**تبدو الصورة جليةً في الجانب الأدبي، لكنها غيرُ ذلك في المسار الثقافي الشامل بأبعاده المتعددة، وفيها الدينيُّ والاجتماعيُّ؛ حيث نلحظ تبادل حضور» المفكر والفقيه « في الساحة القرائية والتأثيرية؛ ففي الخمسينيات حتى الثمانينيات كان المفكر العَقدي أقوى حضورًا من الفقيه السلفي، ثم أخذ هذا دورَ ذاك، ويبدو أنّ المرحلة القادمة ستعيد المفكر إلى الواجهة إن لم يكن إلى الصدارة، على حساب الفقيه الذي كان - طيلة عقود نجومية المفكر - منزويًا في ركن الفتاوى الخاصة بالمسجد والمنزل وعبر الهاتف وبرنامج أو برنامجين إذاعيين أو مرئيين يسترشد به الأتقياءُ في قضايا العبادات وليس لأصواتهم أصداءٌ في المجتمع عدا التحليل والتحريم والمشروعية والمكروهية، في حين كان المفكرون أسيادَ التوجيه، ثم نهض الفقهاء بدور لافتٍ في فترة لاحقة ماتزالُ ممتدةً، وصار للفتاوى برامجها في كل القنوات وللوعاظ القادمين من المدرستين الفقهية والحديثية قبولٌ وانتشار.
** لا أفضلية هنا ولا إشكال هناك لولا جانبُ التهميش والإلغاء الذي يقوده الفقيه وتابعه الواعظ والمفكر وتابعه المؤدلج ضد بعضهم عبر نزاعات المناصب المرئية والمستترة، وقد كتب المهتمون عن « الإمامة والسياسة الشرعية ودولة الفقهاء « برؤى الماوردي والغزالي والجويني والشاطبي وابن تيمية وابن القيم والجابري والعروي وبلقزيز وأركون وجدعان وحنفي وآخرين، وسيبقى السجال العلمي مثريًا لمن نجوا من الإذعان لسلطة «الولي الفقيه»، دون أن يتخلصوا من أوزار الأثرة والإيثار والكِبر والاستكبار حين يعلو صوتٌ على صوت متجاوزًا الفتوى الاختيارية والاستقراء المنهجي.
** جِماع القضية الأمل في تحقيق معادلة «الشرع والعقل» حكمًا وتحكمًا، وما لم يعِ الفقيه دورَ العقل، ويحترم المفكرُ ثابت النقل فسيختل الميزان ويضطرب إيقاع الحياة في بيئةٍ لن تعترف بأحاديةٍ مبتورةٍ ترسخُ الفصل بين الدولة والدين، وهو ما ينتصر له كثيرون اليوم بافتراضهم أنه الحل الأوحد لصراع الفقيه والسياسي وتجاوز إشكالات الإغلاق والتطرف، وهو حل قاصر يعتمر التنظير ويُغفل مسار قرونٍ من التيه أيقظت خصام «الديني والمدني» فلم نهتد إلى الدرب ولم نهنأ بمنام.
** النقل امتداد والعقل استعداد.