د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** أقرأُونا في علم البيئة ( الإيكولوجي) أنّ ساكن الصحراء حذرٌ بطبعه انسجامًا مع أجواء أرضه التي تحمل الشيءَ وضدّه ؛ فربما حملت الرياحُ لواقحَ إعمار أو عواصف دمار، وقد تنبتُ الأرض القرنفل أو الحنظل، كما تحمل رائحة الخزامى أو الغبار، ويتجاور فيها الإنسانُ والحيوان والفراشة والثعبان.
** كنا نختبئ من بعض سلوكاتنا خلف عوامل التأثير البيئي ونجد فيها مستراحًا من التبرير حين نحتد ونشتد، وعندما نتجهم أو نتكتم، ومتى نفي أو ننكفئ، وإذ نُبذِّر أو نُقتر؛ فللمدى المتصحر خارجَنا والجدْب الساكن داخلنا ما ينتصب عذيرًا للقُرَباء ونذيرًا للغرباء.
** لا جدل حول هذه التوطئة وفق المعطيات العلمية والمجتمعية وإن تباينت تفصيلاتها اتكاءً على الخصائص الفردية والتعليمات السماوية والأرضية والاحتياجات الآنية والأعراف المرعية ؛ ليبقى الحذرُ قاسمًا مشتركًا يكاد يسمُ ساكني الصحراء حتى إذا جاءت الوسائطُ الرقمية تبدلت الأحوال، ومن كانوا يخشون ظلالهم - كما يقال - صاروا يسابقونه كي يروا ما وراءه وأمامه وعلى جانبيه.
** كنا نستدرُّ الحكي ممن تجمعنا بهم لقاءاتٌ دون علائق، فنظفر منهم مثلما يظفرون منا بكلمات متقاطعة متحفظة، مفترضين فيمن لا نعرفه شخصًا جديرًا بالشك، ومقتنعين أنّ الجدرانَ كما الإنسان تملك آذانًا؛ فما الذي حصل حتى بات هذا المتوجسُ منفتحًا على كل الجهات الأصلية والفرعية ؛ يكتب ويصور ويحكي ولا يُبقي في خزانته الذهنية والوجدانية ما يخبئه إلا قليلاً.
** صار الأكثرون مكشوفي العقول، مخترَقي الأسوار، مستباحي الأسرار؛ فنعرف بم يفكرون وماذا يقرأون وإلام يتجهون ومن يصادقون وماذا يأكلون ويشربون ومتى يحبون ويكرهون وإلى أين يسافرون وكيف يسكنون ومن يساكنون مدعومةً بالصور والوثائق والحركات والسكنات ؛ فهل سقطت النظرية البيئية العتيقة التي تيقّنت الخوف والتردد والصمت والحذر في إنسان الصحراء ؟ وهل تنضم هذه النظرية إلى عدد من النظريات المجتمعية واللغوية والثقافية والسياسية التي انقلبت معطياتها بفعل الانغماس حتى الفناء في الفضاء السايبروني الممتد من الرأس حتى القدم ومن المُدارسة حتى الممارسة.
** لعل أكثرَ من أفاد من هذا الانفتاح أجهزة المراقبة التي سعت يومًا لتتبع الناس ومعرفةِ نواياهم وأفعالهم فصاروا يأتون إليها طائعين، كما كشفت للباحثين - باختلاف تقديراتهم - ما تُكنُّه الصدور وترمز إليه السطور، وأضيفت - قريبًا - خدمة المجموعات « غير المتجانسة « التي يجد الفرد نفسه فيها دون أن يعلم فضلًا عن أن يسعى، وتضم أفرادًا من هُوياتٍ وانتماءاتٍ متعددةٍ وتجمع الرجال والنساء وتناقش كلَّ شيءٍ ولا تتحفّظ عن شيء، وتصلح وسيلة استمزاجٍ كما استدراج واستخراجٍ وإعادة إنتاج.
** لم يَعُد أمرٌ شخصيٌ أو جمعيٌ خافيًا أو مستورًا، وبات بإمكان من شاء أن يفحص من يشاء متى يشاء؛ فلم يَعُد المقنَّعون قادرين على التخفي مثلما لم تَعُد الأقنعة متمكنةً من الإخفاء..
** التغييرُ يواجهُ التنظير.