د. عبدالحق عزوزي
كان لي شرف إعطاء محاضرة مؤخراً في مركز الإمارات للدراسات عن «رواد الإصلاح في الوطن العربي» والموضوع في غاية الأهمية لأنه عندما نتحدث عن أي إصلاح فكري أو مؤسساتي أو مذهبي
فإن ذلك غالباً ما يوحي إلى تحرير العقل من أثقال اللحظة، ومثبطات التقدم والرقي ونقد الذات، والدفع بالإنسان إلى التفكير في ما وراء الستار، وتجاوز الظرفيات، والولوج إلى جوهر الأشياء.
فأية ممارسة إصلاحية نهضوية تنموية وتقديمية يجب أن تطالها العقلنة وتحديثها، ولكن يخطئ الخاطئ عندما يظن عند سماعه لضرورة الإصلاح الديني أو التجديدي في الخطاب الديني أو في الفكر الديني أنه يجب استبدال الإسلام بدين آخر أو البوح بضرورة استقالة أحكامه الثابتة القطعية أو صناعة قواعد في الفهم أو التطبيق مخالفة للقرآن؛ فالعلماء الحقيقيون الذين تصدوا لمسألة التجديد والإصلاح في الفكر الديني أو في السلوك أو في الخطاب في العصور الآزفة القريبة، فإنهم تناولوها من ضرورة التكيف مع العصر في تثبيت لمعادلة التأصيل مع التجديد، وهذا التأصيل يكون برد الشريعة السمحاء التي أتت بالوسطية والاعتدال، ودعت إلى التفكر واستخدام العقل، وإلى الاستنباط والاجتهاد، إلى مقاصدها وإلى مستلزماتها مع مسايرة ضروريات العصر. فالإصلاح والتجديد هو الإحياء والتفعيل؛ والله سبحانه وتعالى ما بعث رسله ولا أنزل كتبه إلا لإحياء الأنفس ودفعها إلى البر والصلاح.
ولهذا السبب سبق وأن حييت في كتابات عدة، ما تفضلت به مؤسسات رائدة في إعادة نشر كتب رواد إصلاح الفكر الديني والإسلامي والتنموي في مجتمعاتنا، ولاغرو أن مكتبة الإسكندرية قامت بعمل محمود في هذا الجانب عندما قامت بإعادة إصدار مختارات من التراث الإسلامي -الحديث- القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين/ التاسع عشر والعشرين الميلاديين؛ وهو عمل جاد ومثمر يمكن للعام والخاص الاستفادة منه؛ إذ لأول مرة يتم عمل دراسات تقديمية موسعة لكل كتاب، يقوم بها باحثون متخصصون من جيل الشباب في محاولة ذكية من مسؤولي مكتبة الإسكندرية لترسيخ التواصل بين الأجيال.. وقامت لجنة علمية متميزة بمناقشة هؤلاء الباحثين ومراجعة دراساتهم كما تشترك معهم في حوارات علمية رصينة تضم كاتب التقديم ونظراءه من فريق الباحثين.
ومن بين كتب التراث النهضوي الإسلامي التي تمت إعادة نشرها وتوثيقها وتقديمها أعمال علي شريعتى (العودة إلى الذات)، محمد مصطفى حلمي (الحياة الروحية في الإسلام)، الطاهر الحداد (امرأتنا في الشريعة والمجتمع)، عبدالعزيز جاويش (الإسلام دين الفطرة والحرية)، نبوية موسى (المرأة والعمل)، مصطفى عبدالرازق (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية)، علال الفاسي (دفاع عن الشريعة)، الطاهر ابن عاشور (مقاصد الشريعة الإسلامية)، محمد إقبال (تجديد الفكر الديني في الإسلام)، عبدالرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، محمد باقي الصدر (المدرسة الإسلامية)، علي عبدالرازق (الإسلام وأصول الحكم)، خير الدين التونسي (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، عبدالمتعال الصعيدي (الحرية الدينية في الإسلام)، محمد الغزالي (السنة النبوية من أهل الفقه وأهل الحديث).. وأتفق تمام الاتفاق مع الأستاذ إسماعيل سراج الدين مقدم السلسلة إلى أنه ربما كان غياب هذا القسم من التراث النهضوي الإسلامي سبباً من أسباب تكرار الأسئلة نفسها التي سبق أن أجاب عنها أولئك الرواد في سياق واقعهم الذي عاصروه. وربما كان هذا الغياب أيضاً من أسباب تفاقم الأزمات الفكرية والعقائدية التي يتعرض لها أبناؤنا من الأجيال الجديدة داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية وخارجها. ويكفي أن نشير إلى أن أعمال أمثال: محمد عبده، والأفغاني، والكواكبي ومحمد إقبال، وخير الدين التونسي، وسعيد النورسي، ومالك بن نبي، وعلال الفاسي، والطاهر بن عاشور، ومصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، وعلي شريعتي، وعلي عزت بيجوفتش، وأحمد جودت باشا -وغيرهم-.. لا تزال بمنأى عن أيدي الأجيال الجديدة من الشباب في أغلبية البلدان العربية والإسلامية، فضلاً عن الشباب المسلم الذي يعيش في مجتمعات أوروبية أو أمريكية؛ الأمر الذي ألقى على مكتبة الإسكندرية عبئاً مضاعفاً من أجل ترجمة هذه الأعمال وليس فقط إعادة نشرها بالعربية وتيسير الحصول عليها (ورقياً وإلكترونياً).
فكان هذا المشروع يسعى للجمع بين الإحياء والتجديد، والإبداع، والتواصل مع الآخر، وليس الاهتمام بهذا التراث إشارة إلى رفض الجديد الوافد علينا، بل علينا أن نتفاعل معه، ونختار منه ما يناسبنا، فتزداد حياتنا الثقافية ثراء، وتتجدد أفكارنا بهذا التفاعل البناء بين القديم والجديد، إسهاماً في التراث الإنساني المشترك، بكل ما فيه من تنوع الهويات وتعددها.
ولله در زميلنا الأستاذ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب عندما نظر بحكمة لهذا الجانب، حيث إن مدار العلوم الإسلامية منذ مبتداها كان على النص نشأة وتداولاً، وكانت في منطلقها متمثلة له علماً وعملاً، مما جعلها تنفتح على الكون وعلومه وعلى الإنسان ومعارفه، وتشيد عالميتها الرائعة الأولى التي تجلت فيها كثير من خصائص الوحي، وعكست بقدر طيب نوره وإشعاعه في الهداية والرحمة والعدل والحرية والأمن.. كما تجلت فيها أيضاً كثير من القيم العليا المزكية للإنسان والبانية للعمران.
وهذه العلوم اليوم على الفضل والخير الكبيرين اللذين فيها أيضاً مجموعة من العوائق الذاتية تحول دون استئناف العمل البنائي والتجديدي فيها.. وهناك بالأساس ثلاثة عوائق: أولاً؛ أن العلوم الإسلامية قد دلفت نحو قُطب التقليد، حينَ مُورست على الإنسان المسلم مجموعة من الضغوط والتقليصات؛ المعنوية والمادية. فحين استُبدل واقع «قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك» (الذي كان يُمارس في الصدر الأول حين قال عمر بن الخطاب هذه الجملة الرائعة لعبدالله بن عباس وكان فتى ساعتئذ)، بواقع مختلف، واقع «صه! واخرس قاتلك الله!»، بدأنا نرى بعض العلماء يتبوّأون مقامات فيها من الإطلاق والكليانية ودعوى امتلاك الحقائق ما قلص من الهوامش النقدية، وضيّق من مجالات الاجتهاد، كما أدّى إلى ظهور أنماطٍ من التبعية تحت دعوى القداسة في بعض الأحيان.
ثانياً: إن هناك إشكالاً نجده منساباً في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، وهو المتعلق بقضية الثابت والمتحول، فحين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها منتثرة في كتب النابغين من علماء الأمة دون جمع، وحين لم تُتَلَقّ الإشارات الكثيرة الموجودة في القرآن والسنة إلى هذه القضية فبقيت غير بينة المعالم؛ حصلت مشاكل كثيرة.
ثالثاً: العائق المتمثل في قضية الباراديغمات؛ أي الأنساق والأطر المرجعية والمركبات المفاهيمية التي تقود عمليتنا التفكيرية والتحليلية، وتؤطر أضرب النظر الذي نستعمله ونوظفه.. وهذا أمرٌ لم يُعطَ حقه، لتحرير وتجريد الباراديغمات الكامنة وراء علومنا ومعارفنا الإسلامية حتى نتأكد من قرآنيتها وسلامتها، وحتى لا تبقى هذه العلوم والمعارف خاضعة لباراديغمات غير سليمة، يُضفى عليها بغير حق سربال القداسة، ويكون لها من التأثير السلبي علينا وعلى تاريخنا ما يكون.
ولعمري أن هذه العوائق التي يتحدث عنها زميلنا الأستاذ العبادي وغيرها حين استحكمت صيّرت العلومَ الإسلامية كما استقرت بعدُ، في غير قليل من مناحيها وأبوابها تضيق مناهجها دون الاجتهاد والإبداع.. وهاته مصيبة كبيرة وداهية عظمى خاصة عندما تسبب في تحجير العقول وتلويث قلوب الشباب والكبار وتودي بالحكمة والبصيرة التي عليهما قوام الفكر الصحيح وتجعل من الاجتهاد مسألة مستعصية ومن الحوار مبتغى مفقوداً ومن التعايش بين أبناء الوطن وبين الأنا والآخر ضرباً من الخيال.. ثم إن الكارثة عندما لا تفهم المقاصد ولا أصول السياسة والحكم فتاتيك طوائف وأحزاب تقوض أصول الدين باسم الإسلام الذي تريد أن تدافع عنه، فأرادت به أن يكون سياسة والله سبحانه وتعالى أراد للإسلام أن يكون ديناً.
ثم إن العلوم الإسلامية في فترة تأسيسها كانت عبارة عن حوار مع الوحي (النص المؤَسِّس) للاتصال الوثيق والمبدئي معه، وهذا الحوار كان يُعطي بالفعل القابلية لاكتشاف مجموعة من الآفاق، ويكون ذلك استناداً على استثمار المعطيات الموجودة، واستناداً على المقاربة الآياتية للوحي وللكون، استضاءة بالإشارات النبوية المنيرة الموجودة في السنة النبوية المطهّرة.. ممّا جعل هذا الحوار في الفترة الأولى يُولِّد مجموعة من المعارف، ولكن حين كَفَّ الحوار، بقينا منحسرين فيما أنجز خلال تلك الفترات الوضيئة الأولى، دون البناء على مكتسباتها، والقيام بما علينا نحن أيضاً من الواجب إزاء هذا الوحي المبارك، وإزاء متطلبات واقعنا. وإنه ليتعيّن على المسلمين اليوم استئناف هذا الحوار.