د. محمد عبدالله العوين
في الرابع عشر من شهر فبراير 1945م التقى الملك عبد العزيز - رحمه الله - الرئيس الأمريكي الثاني والثلاثين فرانكلين روزفلت على ظهر الطراد الأمريكي «كوينسي» في البحيرات المرة بقناة السويس، وتم حوار عفوي بين الملك والرئيس خلال ساعة وربع الساعة، تطرقا فيه إلى ما كان يعيشه العالم - آنذاك - من أزمات، ومنها الحرب العالمية الثانية التي كانت تقارب نهاياتها، وسعي الحلفاء إلى القضاء على النفوذ الألماني بقيادة هتلر الذي وصل قصف طائراته إلى مصر وبعض دول المشرق العربي، وأظهر روزفلت ثقته بانتصار أمريكا وأوروبا، ولكنه كان متأثرًا إلى أبعد حد بالوضع المأساوي الذي كان يعيشه اليهود تحت الاستبداد النازي في ألمانيا، ويطالب بإيوائهم في فلسطين واتخاذها وطنًا بديلاً لهم، وهو ما رفضه الملك عبد العزيز رفضًا قاطعًا؛ إذ قال له بانفعال شديد: «أعطهم وأحفادهم أراضي الألمان؛ فهم الذين اضطهدوهم». ثم أضاف بأنه لا يشك في أن «الحلفاء سيدمرون قوة النازيين للأبد، وسيكون نصرهم عزيزًا بحيث يوفر الحماية لضحايا النازية»، ثم قال لروزفلت: «دع العدو الظالم يدفع الثمن؛ فالمجرم هو الذي يجب عليه أن يدفع الغرامة وليس المتفرج البريء. أي شر ألحقه العرب بيهود أوروبا؟ إنهم المسيحيون الألمان سرقوا أموالهم وأرواحهم، إذن ليدفع الألمان الثمن». انظر كتاب «القمة الأمريكية - السعودية الأولى» ممدوح الشيخ، ترجمة حسن الجزار، دلتا للنشر، القاهرة، ط1، 2008م.
لقد رسم الملك المؤسس في ذلك اللقاء التاريخي الصورة جلية واضحة للرئيس الأمريكي عن رؤية المملكة لعلاقاتها مع الدول الكبرى كأمريكا وبريطانيا وألمانيا وروسيا، وموقفها من اليهود واحتلالهم بدعم أمريكي بريطاني فلسطين، ورفض تهجيرهم واستيطانهم فيها. وكشف الملك المؤسس في حواره عن ذكاء نادر وعبقرية سياسية لم يتعلمها في الأكاديميات العلمية؛ بل اكتسبها عقله الوقاد، وأنضجتها نباهته المبكرة؛ وهو ما جعل روزفلت يخرج بعد هذا اللقاء القصير باطمئنان تام إلى أن العلاقة الأمريكية مع السعودية، التي كانت في طور بناء مقوماتها التعليمية والاقتصادية والعسكرية، علاقة تنهض على وعي شديد باحترام ثقافات وهويات كل شعب، وتقوية العلاقات الإنسانية بين البلدين على أساس تبادل المصالح والمنافع، وهو ما حدث بالفعل بعد أن وضع القائدان أسس العلاقة السعودية - الأمريكية التي نمت وتصاعدت على مدى اثنين وسبعين عامًا إلى أن وصلت بعد مرحلة الشراكة إلى مرحلة (العلاقة الاستراتيجية)، ودنت في بعض المراحل الصافية إلى أن يكونا حليفين.
واليوم يلتقي الرئيس الأمريكي الرابع والأربعون من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - للمرة الرابعة في الرياض، ثم يلتقي غدًا الخميس زعماء قادة دول مجلس التعاون، ويحضر معهم افتتاح قمتهم بوصفه ضيف شرف.
لقاء الملك سلمان والرئيس أوباما يُعَدُّ بمنزلة قمة «كامب ديفيد» ثانية، بعد القمة الأولى التي لم يحضرها الملك سلمان في أمريكا؛ بسبب الموقف الأمريكي المتساهل مع إيران بإطلاق مشروعها النووي، وتمكينها من فرض هيمنتها على المنطقة دون أن تجد دول الخليج تعاونًا حقيقيًّا من أمريكا يكبح جماح التغوُّل الفارسي في المنطقة العربية.
صداقة عميقة، تتجاوز سبعة عقود من الزمن على كل الأصعدة، السياسية والاقتصادية والعسكرية والتعليمية، وإن مرت في بعض فصولها بحالات من الركود أو شابها شيء من التوتر - كما يحدث عادة من اختلاف في الرؤى بين الأصدقاء - إلا أنها في عهد أوباما سجَّلت الرقم الأقل؛ فمنذ أن تولى أوباما الرئاسة 2008م والرؤى حول قضايا المنطقة العربية لا تكاد تلتقي؛ فقد مضت السياسة الأمريكية في العراق إلى تأكيد الهيمنة الإيرانية عليه بعد الغزو الأمريكي، ودعم السياسة الأمريكية لتيار الإسلام السياسي المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين واستقبال رموزهم في البيت الأبيض على أنهم البديل الأفضل لقيادة المنطقة العربية، والموقف الأمريكي الداعم للثورات العربية بغية إحداث تغيير جوهري في المنطقة، يمكن أن تتمخض عنه الفوضى، والتردد في اتخاذ موقف حاسم من طغيان وديكتاتورية بشار الأسد على الشعب السوري على الرغم من وعيد أوباما بأن الكيماوي خط أحمر، وقد استخدم ضد شعبه ما هو أكثر فتكًا ودموية، إلى جانب الصمت والموقف السلبي من تمدد النفوذ الإيراني في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وأعمال الشغب والقلاقل التي يثيرها عملاؤها في البحرين والكويت والقطيف.
لكن الملك سلمان اتخذ سياسة الحزم والحسم لمواجهة انهيار مفهوم «الدولة العربية»، والوقوف أمام تفتيت المنطقة، وإفشال مخططات الفوضى؛ فكانت «عاصفة الحزم» بداية انبثاق آمال التغيير من حالة الانهيار والضعف إلى إعادة القوة والثقة والأمل، ثم كان «التحالف العسكري الإسلامي» الخطوة التالية لمواجهة الجماعات الإرهابية، واجتثاث جذورها من دول أعضاء التحالف الأربعين، كإجراء ذاتي، يحمي دول أعضاء التحالف من شر الإرهاب الذي أصبح قضية دولية، لا داء عربيًّا إسلاميًّا فحسب.
لعل أوباما وهو في ضيافة خادم الحرمين الشريفين يعيد بعض حساباته التي لم تكن واقعية ولا واعية بما يحسن الأخذ به من رؤى وأفكار عقلانية رزينة مدركة كل الإدراك جذور أزمة الإرهاب ومطامع إيران، وهما المشكلتان الرئيستان في المنطقة العربية التي يعني استقرارها وأمنها ونماؤها خيرًا واستقرارًا وأمنًا للعالم كله، بما في ذلك أمريكا ودول أوروبا.