د. خيرية السقاف
يفاجئك الفتى بما ليس في حسابك من رصيد..
فكلك مخزون لقيم مقننة, متسلسلة, هي أس ما تتوقعه من سلوكه في الحديث معك, ومن الأفكار التي يخبئها في رأسه, ومن المشاعر التي يكتنزها في صدره, ومن الأبجدية التي ترتب كلماتها في نطقه, التي يجرؤ أن يفصح بها لسانه,
لكنك أمام شخصية تفاجئك أنها تختلف عمّا تتوقّع, بما تقول ما لا تنتظر, وكيف تفضي بكيف لا تتخيل,..
حين يتحدث معك فمعرفته تخطت حدود ما تألفه, إلى ما لا تألف,
فألفاظه لا حدود لها من عيب, أو حياء, كل جملة له, أو لفظ يخرجه فيه البرهان ليفحمك بأن من حقه أن يعبّر عمّا يعلم وما يعلم سطحي, أو يرى وما يرى معتم!!
فحرية تفكيره, ومشاعره ومن ثم رأيه, وقوله يكفلها له الواقع الذي يردد على مسامعك أنه ليس واقعك, لأنه زمنه, وجيله, بغثِّه, وطحالبه حين مصدره الصاحب, والإنترنت, والشارع, والمقاهي!!
وحين تنسحب صامتاً مذهولاً, وتضرب على صدرك أخماساً, وأسداساً وأنت تتمتم لنفسك
« أهذا ابني الذي ربيت» فيأتيك الجواب عن هيئته «نعم»..
لكن ابنك ليس حبيس بيتك, ليس في حجراته وحدها, ولا مع نفره القليل, فهو حين يخرج من باب بيتك فالفضاء الشاسع يزجه في بيئات مع أناس يختلفون, وخليط معطيات, في ساحة المدرسة بمن تضم وتلم, بفصولها, بالشارع خارجاً عنها, بشاشات الأجهزة, بالزخم الهادر مما يسمعه, ويتفاعل معه من الألعاب, والأفلام, والأبطال على اختلاف مشاربهم, وسماتهم, وصفاتهم,..
إنهم ليسوا أولئك الذين تربيت أنت معهم, ولا الذين تعايشت بينهم فحملت معهم قوانين لعبة الحياة في كنف من المقاصد والغايات, بالقيم المختلفة والمكنونات, بالحدود المقيدة بأخلاق ذات علاقة وطيدة بأنسجة تنبثق من الحياء, الوقار, السمو, الصفح, الأدب مع النفس وغيرها وإن كنت معه على خلاف..!!
ثمة خبرات تزدحم بها دخيلته ابنك ابن هذا الزمن بكل مخابئها..
ابنك هذا زمنه غير زمنك, ومن ثم فمفاهيمه غير مفاهيمك, ومقاييسه عن القيم, والأخلاق, والسلوك, والمنطق, والتعبير, وأشكال التفاعل غيرك, غيرك,
نعم غيرك..
عند هذا لن يكون الحق معه على الإطلاق، وليس عليك اللوم في مطلق الموقف..!
ففي حين يكون هذا واقعاً طبيعياً مع تغيّرات الزمن, واختلاف المفاهيم فيه,
يكون أيضاً أنك فرطت في القرب منه, وسهوت عن مراجعة حصاده اليومي المتسارع بتسارع المعطيات من حوله, المتغيّرات عليك,..
لأن الحتمي أن مع الأزمان هناك ما لا تغيّره الأيام, أو تمحوه المتغيّرات فيها, ولا ينبغي التهاون فيه, والتغاضي عنه, وهو أمر الأخلاق,
وفيها الحياء, سمة قول وفعل, وتجرد ابنك من الحياء سواء في لفظه, أو فكره, أو لبسه, يعني التفريط منك في تدريبه, وتأسيس الكابح الذاتي لديه..!!
ولا يخفى عليك أن هذا الكابح يؤسس بدءاً بتعريف فتاك بربه, بربط هذه المعرفة بيقينه أن ربه يراه ويسمعه, وبأن مكارم الأخلاق تبدأ بالحياء فهو شعبة من الإيمان, فكما لا ينبغي منه أن يسرق, أو يعتدي, أو يظلم, أو يفحش حياء من الله العظيم, الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق, فإن من ثم عليه أن يكون حييا ًفي التعامل مع البشر,
فالنطق السليم باللفظ الحشيم, هو من عناصر هذا النسيج الأخلاقي بل أسه..
وهو البرهان على سلامة التفكير, وصحة المشاعر..
فمن حيث تزج ابنك في الحياة فإن عليك أن تكون رفيقه الدائم حواراً, وانتباهاً, ودأباً, وحدباً, وفي هذا ما لا يفقده الثقة في نفسه, أو يسلبه تفرده الذاتي, أو يقيد حريته التي غدت المشجب الذي يعلّق عليه كل أمر...!!
لكن, هذا هو المشجب الذي مزّق الكثير من أردية الصحيح, والسوي, والسليم, والقويم, والنقي, مما لا تختلف عليه متغيِّرات الأجيال, أو الأزمان..!