د. سعد بن عبد العزيز الراشد
المدعو «فرعون» كلمة قالها الدكتور مصطفى وزيري، مدير عام آثار الأقصر بمصر، في حديثه الذى أدلى به لصحيفة اليوم السابع المصرية(الأحد 10 أبريل 2016م) وتناقلته عددٌ من المجلات والمواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل بعناوين مثيرة منها: «مدير آثار الأقصر: (فرعون) من منطقة عسير السعودية»و» مسئول مصري (فرعون كان سعودياً)، والمصريون بريئون من دم بني إسرائيل»، إلى غير ذلك من العناوين المثيرة والمشوشة.
ومما قاله الدكتور وزيري أنّ « فرعون موسى» ليس مصرياً ولكنه من الهكسوس الذين وصفهم بأنهم أعراب رعاة احتلوا مناطق من مصر في بعض الأزمنة، وأن «فرعون» ليس لقباً لحاكم مصر.
والحديث الصحفي الذي أجرته الصحيفة مع الدكتور الوزيري يدور حول اعتزامه إلقاء محاضرات لعدد من الطلاب الأجانب القادمين لمصر.
وحرصاً مناّ (آثاريين ومؤرخين ومحبين لمصر وتاريخها الحضاري) على هوية مصر الحضارية ألاّ ينساق الدكتور الوزيري في عالم المجهول، ويفترض نظريات واستنباطات تجافي الحقائق التاريخية والأحداث التي جرت على أرض مصر.
والذي نعرفه من الدراسات التاريخية والآثارية أن الهكسوس قدموا إلى مصر من سوريا عن طريق فلسطين، واستمر حكمهم لمصر حوالي مائة عام، أي حوالي (1674-1558 ق.م.)، أي خلال الأسرتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة.
والنسق التاريخي يعطينا تصوراً أن دخول الهكسوس إلى مصر لم يكن بشكل غزو مفاجئ، وليس من المعقول أن يؤدي ذلك إلى قيام حكم أجنبي غريب عن البلاد وأعرافها، بل تشير المصادر بوجود أدلة عن دخول جماعات منهم إلى مصر منذ منتصف عصر المملكة الوسطى، وعلى وجه التحديد في عهد الملك الرابع من الأسرة الثانية عشرة سنوسرت الثاني (1897- 1878ق.م).
ولا يستبعد أن يكون الهكسوس قد كوّنوا قوة ثقافية تزايدت تدريجياً لتصبح قوة سياسية سبقت في وجودها قيامهم بتأسيس الأسرة الخامسة عشرة، وازداد نفوذهم بعد ذلك في مصر في أواخر عصر المملكة الوسطى، وفرضوا سلطانهم في أثناء المرحلة المضطربة التي وصلتها مصر القديمة مع بداية الفترة الفاصلة الثانية التي أعقبت حكم الأسرة الثالثة عشرة (1786-1633ق.م) حتى تمكنوا من تأسيس الأسرة الخامسة عشرة في عام 1674ق. م تقريباً.
وقد كشفت التنقيبات الأثرية في مصر عن أسماء ثلاثة وعشرين ملكاً من أسماء الملوك الهكسوس مدونة على الآثار التي تركوها، ثلاث أسر من الهكسوس حكمت في مصر، وهي الأسرة الخامسة عشرة (6 ملوك)، والسادسة عشرة (32 ملكاً) والسابعة عشرة (43 ملكاً).
ولم يكن الهكسوس الذين حكموا مصر خلال هذه الفترة أمة همجية، بل كانوا أمة متحضرة، ومنظمة، واستخدموا الحصان والعربة وأنواع من السيوف والخناجر والدروع والأقواس الخشبية المركبة ووسائل أخرى مكنتهم من الثبات في حكم أرجاء واسعة من مصر.
وشهدت مصر في حكم الهكسوس جانباً من الإزدهار الاقتصادي، والحضاري والفكر الثقافي، بدلالة أن موسى عليه السلام، نال العلم والمعرفة والحكمة في بلاط فرعون(الملك) كما ورد في قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (القصص: آية -14).
ونفهم من حديث الدكتور وزيري، أن فترة «فرعون» مصر الذي ارتبط اسمه بنبينا موسى عليه السلام، كان في أواخر حكم الهكسوس، الذين طردوا من مصر على يد (أحمس) الملك المصري(العظيم)، اثناء خروج موسى عليه السلام مع قومه، ولم يبين لنا من هو فرعون مصر زمن خروج موسى مع قومه؟ وعلى أي حال فإن المعجزة الإلهية في هلاك حاكم مصر الطاغية ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) (يونس-آية 90-92).
هذا ولا زال المؤرخون والآثارييون في حيرة من أمرهم عن مصير بدن فرعون هل استطاع قومه انقاذ جثته من اليمّ بعد شاهدوا المعجزة الربانية في هلاكه؟ وهل تمكنوا من تحنيط جثته حسب تقاليد ملوك مصر أم التقمه الحوت كما يقول بعض المفسرين؟ لقد حاول الدكتور الوزيري الاستشهاد بالآيات الواردة في القرآن الكريم للإستدلال على لقب « فرعون» مصر، بهدف نفي صفة (مَلِكْ) عنه، ولكنه لم يوفق، والسبب أن علماء التفسير أجدربتفسير آيات القرآن الكريم، ومعانيها.
فقد ورد في القرآن الكريم ذكر»آل فرعون» و «فرعون» و «فرعون وملئه» وذلك في (61) آية موزعة على (23) سورة،مما يدعونا للتأكد من أنّ هذا «الفرعون» كان يشغل أعلى سلطة في قوته وجبروته من لقب «ملك» لكنه رفع نفسه إلى درجة إله والعياذ بالله.
قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) (القصص، آية:38).
ولعلنا نناقش الدكتور وزيري، حول نفيه صفة «فرعون»، الهكسوسي، أن يكون «ملكاً لمصر»، الذي اغتر بالثراء والنعمة والتمكن لدرجة الاستبداد.
والجواب الذي يؤكد أن «فرعون» مصر، كان «ملكاً» والشاهد على ذلك قوله تعالى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51) (الزخرف:آية:51).
إذاً فهذا «الفرعون» كانت له سلطة الملك على مصر بكل خيراتها، بل تعدى ذلك أن نصّب نفسه إلهاً.
والذي نستغربه من الدكتور الوزيري، وبالرغم من كل الشواهد القرآنية على سطوة «فرعون» مصر وجبروته، ووجود الأدلة التاريخية والآثارية التي تؤكد بما لا يجعل مجالاً للشك عن تمكن الهكسوس من حكم مصر لمدة تزيد على مائة عام، فإنه يَسْتبعد أن تكون صفة «فرعون» نبعت من أصول الحكم وهرمية السٌلطة، حيث يشير إلى خمسة ألقاب لملوك مصر وليس من بينهم لقب «فرعون» وأن أغلب الظن- كما يدعي- أن هذا الاسم مشتق إما من إسم البلدة العربية التي أتى منها وهي «فاران» أو اسم قبيلة «فرعا» الموجودة حالياً كما يقول-الدكتور الوزيري- في وادي عسير في غرب شبه الجزيرة العربية.
وهذا القول فيه جهالة مطبقة لا في الاسم أو المعنى، حيث لا يوجد في السعودية وادى باسم « وادي عسير» بل «منطقة عسير» تتميز بطبيعة جغرافية جميلة وتراث عربي أصيل عميق الجذور، وفيها مئات الأودية والشعاب، والمعالم الطبيعية الخلاّبة وتقطنها قبائل ليس من بينها قبيلة باسم « فرعا»، لكن المنطقة فيها منتزه طبيعي سياحي جميل يسمى»القرعاء» (بحرف القاف أخت الفاء)، وتحول اسمها إلى(الفرعاء) لمطابقة الإسم على المسمى، وتقع على ارتفاع (2000م) فوق سطح البحر، وهي منطقة منبسطة تغطيها غابات من أشجار العرعر.
واشير هنا إلى أن الأستاذ الدكتور زاهي حواس يقول في إحدى مقالاته أنه عند الحديث عن موسى (عليه السلام) وقومه فإن من يحكم مصر يلقب ب»فرعون»، وهذا إعجاز قرآني تؤكده الأدلة الأثرية والتاريخية؛ حيث كان الحاكم قبل عصر الدولة الحديثة وزمن موسى يلقب ب»ني سو» والتي تترجم بمعنى (ملك).
أما في عصر الدولة الحديثة فأصبح اللقب يأتي من التسمية «بر عا» بمعنى (القصر العظيم) وفي العبرية اختلطت (الباء) بال (فاء) فأصبحت (فرعو) وفي العربية زاد التنوين فأصبحت (فرعون) أي (صاحب القصر الملكي أو البيت العظيم).
ومن هذا يتضح أن الدكتور مصطفى وزيري- وهو المتخصص في تاريخ مصر القديم- ذهب إلى اجتهادٍ خاطئ في نفيه «فرعونيّة» مصر، زمن موسى عليه السلام، ولم يكن لهذه الصفة جذور مصرية.
والآثارييون والمؤرخون الجادون لا يرمون الأدلة جزافاً، بل يتوخون الحيطة والحذر ويعتمدون على الأدلة الواضحة أو الأكثر رجاحة عند المؤرخين والمحللين للأحداث التاريخية، والمصادر الأكثر مصداقية ما قاله الله سبحانه وتعالى، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي سنّ للمسلمين صيام يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي نجّى فيه الله بني إسرائيل من عدوّهم (فرعون وجنوده)، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليهود الذين كانوا يصومونه ويتخذونه عيداً: « فأنا أحقّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه»، وقنّن صيامه بيوم قبله أو بعده.
وهذه من السنن الحميدة التي سنها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لنتذكر فيها معجزات الله سبحانه وتعالى في نصرة أنبيائه المرسلين، وتاريخ الأمم والشعوب.
وكلمة أخيرة نقولها للدكتور الوزيري، أنك لست وحدك من يشعر بالفخر والاعتزاز بتاريخ مصر وحضارتها، وقد خصّ الله أرضها بالخير والعطاء، وسكنتها شعوب محبة للعمل والإنتاج، وتؤمن بالواحد الأحد بالرغم من تعدد المعبودات التي فرضها ملوك وفراعنة مصر، حتى أعزّ الله مصر بالإسلام.
وعليه أن يتذكر النهج الذي يسير عليه مسئولي الآثار والعلماء والباحثين - العرب -، وهو الحفاظ على الوحدة الحضارية للأمة العربية على مرّ العصور، والروابط فيما بينهم، السياسية والثقافية والاقتصادية، فمصر على مر التاريخ لم تكن معزولة عن حضارات العرب المجاورة لها وعلى وجه الخصوص الجزيرة العربية، التي لعبت عبر حقب التاريخ دوراً محورياً في التواصل الحضاري بين قارات العالم، هذا عدى الحضارات والممالك التي قامت على أرضها.
وقد كشف علماء الآثار في المملكة العربية السعودية على شواهد أثرية وحضارية توضح تسلسل الحقب التاريخية التي شهدتها أرض المملكة الشاسعة ومنها منطقة عسير، من عصور ما قبل التاريخ مروراً بالعصور الجاهلية وظهور فجر الإسلام وحضارته.
لدينا في المملكة آلاف المواقع الأثرية والمعالم الباقية للمدن التاريخية القديمة والموانئ، وآثار طرق التجارة التي كانت تسير عليها قوافل البخوروالتجارات المتنوعة إلى مصر والشام وبلاد الرافدين، ورصد علماء الآثار في المملكة آلاف الشواهد الأثرية من الرسوم الصخرية وكتابات حضارات الأمم والشعوب التي عاشت على أرضها، ونتائج هذه الأعمال منشورة ومعروفة للباحثين والمهتمين بتاريخ الجزيرة العربية وحضارتها.
وقد كرّم الله جزيرة العرب بأن جعل بيت الله الحرام والكعبة الشريفة فيها، لتكون محجّة للأمم التي آمنت بالوحدانية إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) (آل عمران-الآية:96).
وكم يسرنا أن نكتشف على أرض المملكة -أو أجزاء من جزيرة العرب - أسماء ملوك وقادة لهم صلة بحكم مصر في فترة حكم الهكسوس لمصر أو ما قبلها.
وقد كشف علماء الآثار في المملكة أسماء ملوك وملكات وحكام وأمراء تسيدوا على الممالك العربية في مختلف أنحاء الجزيرة العربية في فترة ماقبل الإسلام، ومنهم ملوك وفدوا لأطراف الجزيرة العربية الشمالية إما لغزو أو تجارة، مما يدلل على أهمية هذه البقعة الجغرافية من العالم القديم.
كنّا نتمنى على الدكتور الوزيري، أن يجعل من وجود موسى عليه السلام في مصر فأل خير ونعمة على مصر حينما بعثه الله منقذاً لها من حكام ظالمين مستبدين، جاهروا بمعصية الخالق عزّ وجلّ، وكنّا نأمل من الدكتور الوزيري أن يُعَري أكاذيب اليهود والصهاينة وتشويههم لتاريخ مصر والعرب ويجعل من قصة « فرعون» موسى عبرة لمن يعتبر.
والله من وراء القصد