ما أن أعلن الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز خبر اعتماد منطقة جدة التاريخية في قائمة التراث العالمي (يوم السبت 23 شعبان 1435هـ الموافق 21 يونيو 2014م) بعد موافقة لجنة التراث العالمي على تسجيلها خلال اجتماع اللجنة التابعة في دورتها الثامنة والثلاثين المنعقدة في قطر، حتى غمر الفرح والبهجة أبناء الوطن بعامة وأهل جدة خاصة بسماع هذا الحدث الثقافي التاريخي.
شكراً لك يا أمير السياحة وفريق العمل الذي قاد معك مسيرة إعداد الدراسات التوثيقية وتقديم ملف جدة التاريخية للمرة الأولى ثم الثانية لليونسكو، حتى حازت بالاعتراف الدولي لتصبح المدينة الأولى على ضفاف البحر الأحمر، وثالثة المواقع الأثرية والتاريخية التي تحمل اسم المملكة العربية السعودية على قائمة التراث العالمي.
وليعذرني القارئ أن أقول بأني من أكثر الناس على أرض هذا الوطن العزيز ابتهاجاً بهذا الخبر السعيد بحكم صلتي منذ الصغر بجدة التاريخية وأحيائها وأزقتها ومعالمها وتراثها وعاداتها وتقاليدها وطيبة أهلها، وزيادة على ذلك ارتباطي العملي والعملي بتراث جدة وتاريخها.
إن جدة التاريخية مدينة قديمة عرفت اسماً وموضعاً منذ فترة ما قبل الاسلام، وكانت ممراً على طريق القوافل بين جنوب الجزيرة وبلاد الشام، وشهد ساحلها رحلة الشتاء والصيف، وعَبَر شاطئها أوائل المسلمين في هجرتهم إلى الحبشة. اتخذها الخليفة الراشد عثمان بن عفان (رضي الله عنه) ميناء لمكة المكرمة بدلاً من الشعيبة الواقعة عنها جنوباً.
كانت جدة وعلى مر العصور من المدن التاريخية المشهورة في العالم لكونها بوابة الحرمين الشريفين، يستقبل مرفأها العريق ألوف الحجاج والمعتمرين، وترسو فيه السفن التجارية القادمة من أنحاء العالم.
ذكرها المؤرخون والجغرافيون والرحالة المسلمون، ومن زارها من الرحالة الأجانب وغيرهم، ووثقوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عن هذه المدينة العريقة. فقد ظهرت فيها المباني الشاهقة الجميلة والأسواق والمساجد والزوايا والأربطة، وأحاط بها سور لحمايتها ببواباته الخمس.
وتكاد تكون جدة التاريخية المثال الوحيد الباقي للمدن الساحلية على ساحلي البحر الأحمر الشرقي والغربي. وعلى الرغم من حركة التوسع العمراني والتطور التنموي الذي شهدته مدينة جدة منذ عام 1367هـ -1947م إلاّ أن المدينة بقيت على تماسكها وحيوتها، وسلمت من المغريات في مواكبة العمارة العصرية الحديثة، وتحملت هذه المدينة بإرثها المادي وغير المادي ضغوط النهضة الحديثة، وبَعُدَ أهلها عنها باستسلامهم لمغريات الحداثة طمعاً لحياة أفضل. لكن جدة تبقى غير في كل الأحوال، فقصة بقائها ومقاومتها للآلام والجراحات والإهمال والنكران موضوع يطول شرحه. لكني أستعير أبياتا من قصيدة للأمير خالد الفيصل(جدة في قصيدة):
«إنها المدينة الأسطورة
فلم يريدونها مذعورة..
إنها همسة رجاء، للمسة وفاء..
إنها رقصة موجة، وحلمُ مساء ..
إنها صوت شاعر، وتغريدة طائر
إنها صهيل جموح، وصهوة طموح ..
إنها الصاعدة الواعدة، والتجربة الرائدة..
إنها جدة ..
بسملة عثمان، وتحميدة عبدالله ..
إنها الحلم يتأسس، والإبداع يتنفس..
إنها أنتـم ..
فاتقوا الله في أنفسكم».
إن تسجيل جدة التاريخية على قائمة التراث العالمي لم يكن بالأمر السهل، وهذه قصة أخرى، لكني أود الإشارة إلى الجهود المبكرة لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، قبل تأسيس الهيئة العليا للسياحة، وتوالت جهود سموه بعد ذلك مع وزارة التربية والتعليم في عهد وزيرها الدكتور محمد بن أحمد الرشيد (رحمه الله) بالعرض على المقام السامي الكريم بطلب الموافقة على القائمة الأولية لعدد من المواقع الأثرية والتاريخية لتقديمها لمنظمة اليونسكو، وما أن صدرت توجيهات الدولة بضم الآثار إلى هيئة السياحة حتى جعل الأمير سلطان بن سلمان جدة التاريخية نصب عينيه، فوضع لها خطة موزونة وفريق عمل بهدف وضع جدة التاريخية على خارطة التراث العالمي وليس هذا فحسب، بل لإعادة الحياة لقلبها ليبقى نابضاً تستنشق منه هذه المدينة عبق الماضي وتواكب تحديات العصر.
وفي الوقت الذي نتحدث فيه عن جدة التاريخية فمن الواجب أن نذكر بالعرفان جهوداً لا تنسى لأمراء منطقة مكة المكرمة تعاقبوا عليها ومنهم صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز(رحمه الله) وصاحب السمو الملكي الأمير عبدالمجيد بن عبد العزيز(رحمه الله) وصاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل وصاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن ماجد بن عبدالعزيز محافظ محافظة جدة. كما نشير لجهود وزراء الشؤون البلدية والقروية الذين تعاقبوا عليها وعلى وجه الخصوص في فترة وزيرها صاحب السمو الملكي الأمير منصور بن متعب بن عبد العزيز، وكذلك أمناء محافظة جدة و أخص منهم معالي المهندس محمد سعيد الفارسي الذي كان بحق الشعلة التي بقيت متوقدة طوال هذه السنين حتى زادت توهجاً مع مقدم صاحب السمو الملكي مشعل بن عبدالله بن عبدالعزيز أمير منطقة المكرمة الذي خص جدة التاريخية بأسبقية في برنامج عمله وكان سنداً قوياً للأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز ولفريق العمل لجدة التاريخية.
وفي هذا الصدد أجد من واجبي أن أبارك لشخص عرف بحبه وعشقه لتراث جدة وكان له دور مهم في توجيه الاهتمام لجدة التاريخية، الذي قاد كوكبة من أبناء جدة ومحبي التراث في عمل تطوعي غير مسبوق للمناداة بالمحافظة على تراث هذه المدينة العريقة، فقد سار في أزقتها وممراتها ووثق بالصورة ملامحها وتراثها الحي، ويجتمع مع أصدقاء التراث في شهر رمضان من كل عام في قصر نصيف التاريخي للتذكير بتاريخ جدة وأصالتها، إنه صاحب السمو الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود.
غير أن تسجيل جدة في قائمة التراث العالمي ما هو إلاّ خطوة أولى للمحافظة والتطوير والتوظيف للمباني التاريخية، وتوفير الخدمات والمرافق، وحسن الإدارة، وتنظيم المعارض والفعاليات الثقافية والتراثية والمشاركة الفاعلة للمجتمع المحلي.
إن تاريخ جدة بعبقه وحلاوته وتراثها الثقافي النفيس جدير بأن يكون للأدباء والمفكرين وعشاق الفن مشاركة قوية والمزيد من العمل الدؤوب لجعل هذه المدينة نابضة بالحيوية والنشاط.
حقاً ما أجملها من مناسبة جميلة بإعلان اليونسكو جدة التاريخية أحد مواقع التراث العالمي مع عودة خادم الحرمين الشريفين من إجازته القصيرة بالسلامة إلى أرض الوطن.
والله من وراء القصد،،