د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يكاد يتفق نقَّادنا العرب على أنَّ تراثنا القديم لم يكن قد بلغ مرحلةً من النضج التي تؤهله لأنْ تكون ممارساته النقدية مكتملة الصورة والأركان، ويؤكِّدون على أنَّ أقوى دليلٍ على ذلك هو خلوُّ تلك الأحكام النقدية من التعليل العلمي الذي يُسوِّغها، ويرون أنَّ هذا الأمر طبعيٌّ في ظلِّ فهم طبيعة التعليل العقلية التي لا يستطيعها إلا فِكرٌ مُكوَّن، ثم إنه لا بُدَّ من اعتماد التعليل على مبادئ عامة، والعرب وقتها لم يكونوا وضعوا شيئاً من ذلك.
والحقُّ أنه بمراجعة هذه الآراء، ومن خلال البحث العميق المتأني في تراثنا النقدي القديم، والنظر إلى تلك الفترة بعين الإكبار والإنصاف، يظهر أنَّ هذا الأمر غيرُ صحيح، بل إنَّ فيه نوعاً من الإجحاف للجهود النقدية التي كان يبذلها النقَّاد الأوائل في العصرين الجاهلي والإسلامي، والمشكلة الكبرى أنَّ كثيراً ممن نظر في هذه الآراء سلَّم بها وآمن دون مراجعةٍ أو تمحيص، والأعظم من ذلك أنه انطلق منها وبنى عليها كثيراً من التفسيرات النقدية لتلك المرحلة المهمة من تراثنا القديم، ولا شك أنَّ ما بُني على باطلٍ فهو باطل!
أقولُ هذا وأنا أؤمن تماماً باتساع هذه العملية العقلية في القرن الثالث الهجري وما بعده، وأعي أيضاً أنَّ هناك فرقاً بين حضور هذا التعليل ودقَّته وعلميته بين هذه الفترة وتلك، وهذا بلا شك راجعٌ إلى عددٍ من الأسباب، من أهمها تطور العقلية العربية، ودخول ثقافاتٍ جديدة في المشهد النقدي، إضافةً إلى مشاركة المهتمين بعلم الكلام في الدراسات البلاغية والنقدية، إلا أنَّ هذا كله لا يمكن أن يسوِّغ هذه النظرة القاصرة لوجود التعليل النقدي في العصر القديم، ويلغي حضوره البارز في الممارسات النقدية.
وأظنُّ أنَّ النقَّاد الذين زعموا غياب التعليل عن تلك الفترة انخدعوا بعددٍ من المشاهد النقدية المشهورة التي كانت تردِّدها كتب التراث، والتي كانت تُفتقد فيها هذه الممارسة المهمة، كما في قصة لبيد بن ربيعة حين سُئل عن أشعر الشعراء، فذكر أنه صاحب القروح (امرؤ القيس)، ثم ابن العشرين (طرفة)، ثم هو، وكما في بعض أحكام الأصمعي التي تخلو من التعليل، كقوله: «بشار خاتمة الشعراء»، وقوله: «خُتم الشعراء بابن هرمة، والحكم الخضري، وابن ميادة، وطفيل الكناني، ومكين العذري»، وغيرها من المشاهد التي انتقاها النقَّاد ليبنوا عليها هذا الحكم المتعسِّف.
ولي مع هذا الموقف النقدي الذي شاع وانتشر بين نقَّادنا المعاصرين عدَّة وقفات، أما الأولى فإنَّ المتأمل في تراثنا النقدي، الناظر إليه بعين الإنصاف، سيلحظ بوضوح أنه مليءٌ بالمواقف النقدية المعلَّلة، وزاخرٌ بالأحكام التي كان للتعليل العلمي المقنع حضورٌ فيها، ومن منَّا لا يعرف قصة النابغة الذبياني مع حسان بن ثابت رضي الله عنه في سوق عكاظ، أو موقف أم جندب مع امرئ القيس وعلقمة الفحل، وغيرها من المواقف التي يظهر فيها التعليل العلمي بوضوح.
ولعل أولئك الذين ذهبوا إلى إنكار هذه الموقف والتشكيك فيها كانوا يعتمدون على أنَّ هذا التعليل لا يمكن أن يصدر عن فِكْرٍ عاش في هذا العصر (الجاهلي)، وهو كلامٌ غير مقنعٍ ولا منطقي، فهؤلاء العرب كانوا قمَّةً في الفصاحة والبلاغة، ولهذا اختار المولى سبحانه أن يتحدَّاهم بالقرآن الكريم الذي أثبت لهم هذه القوة وذلك التميز في عددٍ من آياته، ثم إنَّ الروايات تواترتْ على مواقف كانوا يميزون فيها بين الكلام وغيره، ولعلَّ اختيارهم للمعلقات أكبر وأقرب دليل على ذلك، أفتراهم بعد كلِّ هذه المقدرة اللغوية الباهرة عاجزين عن التعليل النقدي؟ وهل يستقيم أن يُحتجَّ على هذا بأنَّ الإبداع شيءٌ والتعليل النقديُّ شيءٌ آخر؟ ثم إنَّ تعليلهم هذا غير مستغربٍ ولا مستحيل، وكأنَّ الذي ينفيه عنهم ينفي أن يكونوا قد صنعوا سيارةً أو طائرة!
أما الوقفة الثانية فتنطلق من قاعدة أنَّ السكوت عن الشيء لا يعني عدم وجوده، وهنا أقول: إنه حتى لو سُلِّم بندرة ظاهرة التعليل أو حتى اختفائها بالكلية فإنَّ هذا لا يعني أنهم لم يكونوا يعون العلة النقدية العلمية الصحيحة للحكم الذي يصدرونه على النصِّ الإبداعي، وهل يجب أن يُصرِّح جميع النقَّاد في ذلك العصر بالتعليل في كلِّ مرةٍ حتى يثبتوا أنَّ عصرهم -الذي بلغت فيه الفصاحة والبلاغة أوجها- كان واعياً بهذه العملية؟ بل لم لا يكون سكوتهم عن التعليل من باب الإيجاز والاختصار، وهي السمة التي كانوا يشتهرون بها ويفتخرون فيها، أو من باب مراعاة المخاطب، وهي البلاغة بعينها، حيث كان المخاطبون في ذلك الوقت لا يتكلمون العربية فحسب، بل في قمَّة بلاغتها وفصاحتها، وإذا كان المخاطب بليغاً مثلي فهل يناسب أن أبيِّن له في كل مرَّةٍ التعليل المقنع للحكم النقدي الذي يصدر عني! بل ربما كانوا يرون أنَّ الع مد إلى إظهار التعليل في كلِّ نقدٍ نوعٌ من الاستخفاف بالمخاطب، واتهامٌ له بأنه غير قادرٍ على التمييز والتعليل حين يصغي إلى قطعةٍ أدبية.
ولعلَّ مما يؤيد هذا الرأي أنَّ أولئك النقَّاد الذين لم نكن نجد في بعض مواقفهم النقدية تعليلاً لأحكامهم كانوا في مواقف أخرى يكشفون عن هذا التعليل، إمَّا ابتداء من تلقاء أنفسهم، أو حين يتوجَّه إليهم أحدٌ بالسؤال، وهنا تحضر قصة يونس النحوي الذي سُئل عن شعراء النقائض؛ جرير والفرزدق والأخطل: أيهم أشعر؟ فقال: أجمعتْ العلماء على الأخطل، قال أبو عبيدة: فقلتُ لرجلٍ إلى جنبه: سَلْه: ومن هؤلاء العلماء؟ فسأله، فقال: مَنْ شئتَ؛ ابن أبي إسحاق، وأبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمرو الثقفي، وعنبسة الفيل، وميمون الأقرن، هؤلاء طرقوا الكلام وماشوه، لا كمن تحكون عنه لا بدويين ولا نحويين، فقلتُ للرجل: سَلْه: فبأيِّ شيءٍ فُضِّل عليهم؟ فقال: بأنه كان أكثرهم عدد قصائد جياد، وليس فيها فحشٌ ولا سقط.
واستمع إلى أبي عبيدة حين قرَّر تفضيل الأوائل للنابغة الذبياني حيث يقول: «يقول مَنْ فضَّل النابغة الذبياني على جميع الشعراء: هو أوضحهم كلاما، وأقلُّهم سقطاً وحشوا، وأجودهم مقاطع، وأحسنهم مطالع، ولشعره ديباجة»، واستمع إليه أيضاً يتحدَّث عن عِلَّة من قدَّم جريراً: «يحتجُّ مَنْ قدَّم جريراً بأنه كان أكثرهم فنون شعر، وأسهلهم ألفاظا، وأقلهم تكلفا، وأرقَّهم نسيبا، وكان دَيِّناً عفيفا».
وهذا الأصمعي الذي ذكرت آنفا بعض مواقفه غير المعللة نجده يقول حين سئل عن أشعر الناس: مَن يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا، أو الكبير فيجعله بلفظه خسيسا، أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى، فقيل له: نحو مَنْ؟ قال: نحو ذي الرمة حيث يقول:
قِفِ العيسَ في أطلالِ مَيَّة فَاسألِ
رُسُوماً كَأخلاقِ الرِّداءِ المُسلسلِ
فتمَّ الكلام بالرداء قبل المسلسل، ثم قال المسلسل فزاد شيئا. ولا ريب أن هذه المواقف تدل دلالة واضحة على أن الأصمعي -وهو ممن يتهمون بخلو أحكامه من التعليل-كان لديه ورؤاه الخاصة في تعليل مثل هذه الأحكام النقدية، صرَّح بها أو لم يُصرِّح.