د. خالد محمد الصغِّير
الشفافية.. المكاشفة.. الصراحة.. المواجهة.. الاعتراف بالخطأ.. تحمل المسؤولية بشجاعة.. المهنية العالية.. المعلومة والخبر الصحيح.. التحليل.. المصداقية.. الدقة.. الحيادية.. الحرية الإعلامية.. التوازن في الطرح.. النزاهة الإعلامية.. تلك كلمات تمثل من جانب الصفات العامة التي ينبغي أن يتحلى بها المسؤول العصري في الألفية الثالثة، ومن ناحية تشكل الخطوط العريضة التي ينبغي أن تسير العمل الإعلامي المحترف في عصر التقنية الحديثة، والسرعة، والانفجار المعرفي الهائل، والمجتمع الرقمي، وهي مفردات طارئة إلى حد ما على واقع بيئة العمل السعودي في قطاعه العام، وفي المجال الإعلامي على وجه الخصوص، وقادت هذه المفردات التي تحمل في مكنونها دلالات ومفاهيم كبرى إلى نشوء أدوار، وخلقت في الوقت نفسه ثقافات، ومناخات لم تكن إلى وقت قريب مما ينبغي أن يتعاطى ويتكيف معه معاً المسؤول والإعلامي السعودي.
إلى وقت قريب كان مقبولاً، أو متوقعاً من المسؤول الأول، أو من في حكمه من ذوي المراتب الوظيفية العليا في أي مؤسسة أو دائرة حكومية أن يتصدى للإجابة برد يجافي الحقيقة عن تقصير تم إبرازه إعلامياً، أو خطأ مارسته جهته، بل إن ذلك المسؤول يعتقد أن من واجبه الاستماتة في الدفاع عنها، ومحاولة تبرئة ساحتها مما طالها من انتقاد يرتكز على حقائق دامغة، وهدفه بناء يراد منه تصحيح مسار العمل في تلك المؤسسة، وتوجيهه الوجهة الصحيحة والإشارة إلى موطن الخلل، وفي أحيان يتجاوز ذلك إلى تقديم رؤى واقتراحات تسهم ولا شك حين الأخذ بها بالرفع من أداء العمل في تلك المؤسسات. ومنطلق المسؤول في دفاعه هذا ومحاولته إبراز مؤسسته في أحسن حال، وتلميع صورتها مبعثه اعتبارات لا تتجاوز - في تقديري الشخصي - المصلحة الشخصية المتمثلة بالتشبث بالكرسي المخملي الدوار الذي يعتلي عرشه، وهناك من المسؤولين من يعمل ويتصرف بموجب ذلك لأنه لا يزال يعيش بعقلية عقود ماضية ترى أن مسؤولياته تتوقف على الدفع بعيداً بكل من يحاول الاقتراب من محيط مؤسسته من خلال إلصاق تهم لمن بادر وأشار إلى موطن الخلل بأن تلك المحاولات لا تعدو أن تكون إما محاولة للاصطياد بالماء العكر، أو القصد منها الإثارة والتأليب الجمعي، أو الرغبة بالثأر الشخصي، أو أن ما كتب وقيل في أحسن أحواله تنظير لا يلمس الواقع، وهو في مجمله وواقعه (كلام جرايد) (أو حكي أو مهاترات فضائيات) لا يقدم ولا يؤخر. ومن هنا فأنا - المسؤول - لست معنياً بالالتفات إليه، وإعطائه أي قدر من الأهمية.
وفي المقابل بدأ المتابع يلحظ أننا بدأنا للتو وضع خطواتنا الأولى نحو مزيد من العمل الإعلامي المحترف، ولكن مشوارنا الألف ميل هذا لم نخط فيه إلا خطوات قليلة بطيئة الرتم إلى حد ما بشكل لا يتوافق مع معطيات ومستحقات المرحلة الراهنة التي يمكن أن نسميها بالمرحلة الاحترافية المهنية الإعلامية المشوبة بمناخ إعلامي منفتح شعاره الأبرز الشفافية. كما أن فئة أخرى لا يُستهان بها من إعلاميينا اختلط عليهم أمر تداعيات المرحلة الراهنة ففهموا أن من متطلباتها الاندفاع والسير بخطى غير محسوبة، وتناول أو عرض من غير إحاطة متكاملة بالقضية المطروحة للنقاش، ومن غير امتلاك لأدوات العمل الإعلامي المحترف، وهو الأمر الذي أسهم في أحيان إلى تأجيج مواقف سلبية تجاه قضايا استراتيجية حساسة نظراً للحسابات والمعالجات الإعلامية الخاطئة.
الحلقة الاحترافية المفقودة بين مسؤولينا وإعلاميينا تكمن في عدم فهم كامل ودقيق لدور كل منهم على خلفية مستحقات المرحلة الحالية في ظل شيوع مناخ الوضوح والشفافية، وارتفاع سقف الحرية الإعلامية الممنوحة لكل منهم، وفي عدم وجود قدر كاف من الثقة بين الطرفين. فالمسؤول ليس دوره العمل دوما على إبراز الجوانب الإيجابية في مؤسسته أو إدارته الحكومية والتغطية على جوانب النقص داخلها، ومحاربة كل من يحاول تجليتها وتسليط الضوء عليها، والشك أو بالأحرى المبالغة في تقدير النتائج المترتبة على تقديم معلومات للنشر، أو الخوف على مستقبله عند الإدلاء بأي تصريح، أو الخشية من خضوعه للمساءلة حين الكشف عن بعض المعلومات والأخبار التي يجب أن يطّلع عليها الرأي العام، ومحاولة الابتعاد قدر الإمكان عن الاحتكاك المباشر بالإعلاميين، وإحالة طالب المعلومة أو الخبر إلى مكاتب العلاقات العامة التي تعتقد أن مهمتها تكمن في التلميع والتبرير للمسؤول والجهة التابعة لها.
وعزز الإعلامي بدوره فقدان أو لنقل ضياع هذه الحلقة بنظرته المشوبة بالحذر تجاه المسؤول، وربما من تنامي شعوره بالخوف من تجلية الحقيقة، أو إبراز ما لديه من حقائق للرأي العام. كما أنه ايضاً يسهم بذلك من خلال محاولته أحياناً البحث الإثارة، ورغبته في بناء مجد ذاتي على حساب الحقيقة، والرغبة فقط في تحقيق السبق الصحفي، والشهرة، وممارسته عملية التسطيح، وفبركة الحدث أكثر من شرحه وتفسيره كما هو للرأي العام، والرغبة في إحراج المسؤول أمام المتلقي ومهاجمته ليضفي على نفسه صفة الجرأة في الطرح. وهو بذلك ينأى بنفسه مسافات عن المعايير الأخلاقية والمهنية الإعلامية العالية المتمثلة بالحصانة، والمصداقية، والتوازن في نقل الحقيقة، والعقل على الاقتراب من مصادر المعلومات، ونقلها وفق معايير الدقة والشفافية، وعدم الخلط بين الخبر والرأي، والالتزام بالنزاهة، والموضوعية، وتقديم الحقائق مجردة.
والحلقة المفقودة الضائعة تلك يمكن إعادة اكتشافها، ومن ثم تضمها مع بقية سلسلة الحلقات المنظمة لحلقات العلاقة بين المسؤول والإعلامي، وذلك يتأتى من خلال تبني أدوار مختلفة متعددة المشارب يؤديها المسؤول والإعلامي على حد سواء متمثلة بسعي المسؤول الحثيث لتوضيح الأمور، والرد على القضايا والمشاكل التي تتناولها وسائل الإعلام المرئي والمقروء منها وجعل ذلك سياسة ثابتة له عند تعاطيه مع الإعلام، وأن يعكس بكل شفافية وتجرد ما يدور في ردهات مؤسسته أو إدارته، وإلا يجعل منها مدينة فاضلة أو أن يحاول تصويرها بذلك، وأن يبتعد في تعامله مع وسائل الإعلام عن الحذر والسرية التامة، والتجاهل لها، أو لنقل تحاشي التماس المباشر مع رجالات الإعلام، لأنه بفعله هذا يكون قد مهد الطريق لتسرب، أو حتى اختلاق معلومات غير دقيقة تؤثر سلباً على المؤسسة التي يدير دفتها، ومن هنا تأتي أهمية تمتع المسؤول بفهم واسع لمهمة الإعلام، واستشعاره لدوره للمساهمة في نجاحه وترشيد توجهات. والإعلامي يمكن أيضاً أن يكون له إسهام في ذلك بإبدائه رغبة جامحة لامتلاك أدوات المهنة الإعلامية بشكلها المحترف، وحرصه على الدقة في نقل المعلومة، وتجنبه الاعتماد على أسلوب الفاكس والمخاطبات المكتبية في الحصول على المعلومة، ومحاولته تغطية الأحداث والوقائع بصدق وحيادية، والعمل على بناء جسور من الثقة بين المسؤول والمواطن، ومحاولته إتاحة الفرصة للمتلقين للمشاركة والمساهمة في حل المشكلات المؤسسية العامة بدلاً فقط من إثارتها، وإبراز ذلك النوع من القضايا التي تهم المواطن من أجل إيصال صوته وشكواه إلى المسؤول المعني، ولفت نظره إلى وجود خلل في التعامل مع تلك القضايا والمشاكل ومحاولاً أثناء ذلك كله النأي بنفسه عن مجرد الرغبة في تصيد أخطاء ثانوية لا تخدم هدفاً عاماً. وهذا يظهر مدى أهمية أن يعي الإعلامي دهاليز العمل المؤسسي وضرورة التعامل معه بمهنية عالية.
وردم الهوة بين المسؤول والإعلامي يمكن أن يتحقق كذلك من خلال إيجاد قنوات تواصل بين المسؤولين والإعلاميين بأشكال وألوان مختلفة بما في ذلك الزيارات المتبادلة، والندوات المجدولة المنتظمة التي يمكن أن يتداول المجتمعون فيها من مسؤولين وإعلاميين القضايا المشتركة ذات العلاقة، ومحاولة إيجاد أرضية مشتركة لعمل مؤسسي وإعلامي تكاملي يصب في النهاية لمصلحة المواطن والوطن ينأى بنفسه عن فرض المعلومة الموجهة الدعائية والتبريرية، وإعلام تهويلي يبحث عن الإثارة أكثر من الحقيقة الفعلية.
وهكذا نجد أن المسؤول والإعلامي يجب أن ينظر كل منهما من زاوية أن العلاقة بينهما عبارة عن حلقة تكاملية وليست تصادمية، بحكم أن كل منهم يؤدي دوراً ومهمة وواجباً وطنياً، وأن عليهما بدلاً من التنافر العمل على الانصهار في بوتقة واحدة، وأن يسعى كل منهما لصبغ علاقتهما بحيز كبير من الاحترام والتقدير، وتفهم كامل للدور الذي يلعبه كل طرف، وأن يعملا على إيجاد لغة مشتركة بينهما من أجل النهوض بواقع العمل المؤسسي والإعلامي، والوصول بهما إلى مراتب عليا لكي نهيئ الأجواء الصحية الكاملة لتحقيق نهضة تنموية شاملة تقودنا في النهاية إلى مصاف الدول الرائدة تحديداً في القطاعين المؤسسي والإعلامي، وبخاصة في ظل المرحلة الاستثنائية التي نمر فيها وتتطلب منا التحرك بمزيد من الديناميكية والفاعلية النشطة المصبوغة بالمهنية الاحترافية العالية المكونة للوجه المستقبلي لمجتمع القرن الحادي والعشرين.