د. محمد عبدالله العوين
أربعة عشر عاما صاخبة عاصفة ضاجة بالأحداث والمتغيرات السياسية والاجتماعية والعملية مرت منذ ذلك اليوم الذي ودعت فيه إذاعة الرياض، في يوم 1 -6 - 1424هـ وها أنا اليوم بعد أربعة عشر عاما من ذلك الرحيل أعود إليها عودة العاشق بعد غيبة طويلة؛ أعود إليها ضيفا بعد أن كنت أستقبل مئات الضيوف، وأدخل إلى استديوهاتها وكأنني الغريب عنها بعد أن كنت قضيت بين أفيائها ربع قرن من الزمان متنقلا من استديوهات التسجيل 3 و 4 و6 إلى استديوهات الهواء..
كنت أتحاشى تلبية الدعوات التي قدمت إلي طوال السنوات التي مرت؛ ربما خائفا من ألا أستطيع الصمود أمام سيل الذكريات المنهمر بحلوها ومرها؛ ولكنني اليوم استجبت لدعوة زميل عزيز طلب مني أن أتحدث عن برنامج قديم لي اسمه «بين ذوقين» ربما لا يتذكره إلا من كان عمره الآن فوق الخمسين، لأنني قدمت الحلقة الأول منه بتاريخ 1 - 1 - 1401هـ وتوقف بتاريخ 1 - 1 - 1411هـ.
لقد تغير كل شيء؛ من بهو الاستقبال إلى الممرات إلى المكاتب إلى الاستديوهات؛ تغير كل شيء حتى الوجوه والأسماء والمسميات، تبدلت الوجوه القديمة بوجوه شابة جديدة، وتبدلت الإدارات بمديرين جدد، وتغيرت أدوات التسجيل والمونتاج من شريط الريل الكبير إلى التسجيل الرقمي على CD والفلاش مومري ونحوهما، لم يبق من القديم إلا ملامح تاريخ مر وكاد أن ينقرض مرسوما في وجوه قليلة تصارع للبقاء بعقود مؤقتة بعد أن قذفها الزمن السريع الراكض إلى التقاعد.
كان اللقاء الأول بعد الاستقبال في مكتب رئيس قسم المذيعين الذي كان اسمه في القديم «مكتب كبير المذيعين» آهٍ كم مر على هذا المكتب من الأسماء الإذاعية الكبيرة؛ فهنا في واجهة المكتب كان يجلس الإذاعي الكبير محمد عبد الرحمن الشعلان أول من نطق بـ « هنا إذاعة الرياض « في يوم الأحد 1 - 9 - 1384هـ بمبنى الإذاعة القديم في حي الملز بشارع الفرزدق وصاحب برنامج «أبشر» الشهير الذي انطلق 1396هـ وهو أول برنامج إذاعي جريء يناقش قضايا المجتمع بانطلاقة مبكرة غير مسبوقة أقرب ما يكون على الهواء أو هكذا كان يخيل للمستمعين؛ بينما كانت الاتصالات الهاتفية تسجل وتخضع للمونتاج ثم يعلق عليها محمد الشعلان على الهواء، وهنا جلس الزميل العزيز صالح بن عبد الرحمن السويدان معد ومقدم برنامج «من الجمعة إلى الجمعة» الذي يستعرض أبرز أحداث الأسبوع ويلتقي بضيف يتحدث عن أحدها، وهنا كان يجلس الإذاعي الكبير «غالب كامل» صاحب برنامج «سلامات» الذي التقى آلافا من المنومين في المستشفيات.
كم انهال على ذاكرتي في هذا المكان من مواقف وحكايات وقصص وشخصيات وأنا أرتشف فنجال القهوة الذي قدمه له مضيفي الكريم الزميل العزيز عبد الله الطهطام محفوفا بتحايا الإذاعي الشاب الأنيق ذي الصوت الجميل أحمد العلكمي الذي يجلس على مكتب كبير المذيعين ؟ زخم هائل متدفق من تلك الأحاديث العذبة والممازحات اللطيفة الجادة والهازلة التي دارت في هذا المكتب الصغير في مساحته الكبير في معناه؟ كم استقبل من الضيوف الأعلام والنجوم المتلئلئة في فضاء الإدارة والأدب والفكر والفن؟
دارت في مخيلتي فكرة مستحيلة؛ ولكنها من باب الأمنيات ليس إلا، أو من باب الخيال العلمي تمنيت فيها أن يستطيع الإنسان في أي مكان استعادة أي حدث أو شخصية مرت بتجميع جزيئاتها المتناثرة الطيارة السابحة المشتتة في فضاء الزمن العميق السحيق، ليت أننا نستطيع بطريقة فنية تقنية مبتكرة نستطيع استعادة صور وأصوات الشخصيات أو الأحداث التي مرت بنا في أي مكان؛ لو تمكنا من ذلك لظفرنا بثروات تاريخية وأدبية عالية القيمة على كل المستويات الكبيرة الجليلة والسريعة العابرة.
وهنا علي اليمين بجانب المصلى كان مكتب عملاقين كبيرين إبراهيم الذهبي صاحب الصوت الجهوري والثقافة العريضة الواسعة والمتحدث الظريف الخفيف الذي لا يمل مجلسه ولا تتعب أو تتمنع ذاكرته ولا يعجزه الجواب السريع على البديهة للتخلص من أي موقف، الذهبي كان هنا يرتب لبرامج رمضان التاريخية المتكئة على التراث الشعبي، وبرامج المسابقات الجماهيرية، وبرنامج «هؤلاء علموني» و «كتاب وقارئ» وغيرها، وهنا بجانبه في المكتب يجلس الإذاعي الكبير ذو الصوت العذب الرخيم ماجد الشبل، لا زالت ضحكاته تدوي في أرجاء المكتب بعد تعليق ساخر من الذهبي أو طرفة نادرة، هنا كان ماجد يجلس بوسامته وهيبته وبصمته المطبق أحيانا أو بضجيجه المزاجي العاصف، ويجلس معه خياله السارح البعيد وشفتاه مطبقتان على صمت ذكي وتفكير عميق، ماجد صاحب البرنامج الإنساني الذي لا ينسى «تحية وسلام» و.. للحديث بقية..