د. محمد عبدالله العوين
من يعتقد أن السعودية اليوم ستكون هي السعودية عام 2030م - 1452هـ فهو واهم ولا يتذكر كيف كنا عام 1350هـ ثم كيف أصبحنا الآن مع الفارق الكبير في سرعة التغيير الآن.
التغير سنة الله في الخلق، ولولا هذا التغير الذي أراده الله للبشرية لما تقدم العقل البشري ولما تجلت له بعض أسرار الكون والحياة {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}، ولهذا لابد أن يهدأ القلقون من روعهم وأن يؤمنوا بأن عصرهم مختلف عن عصر آبائهم ، وأن عصر أبنائهم سيكون مختلفا جدا عن عصرهم.
وبعد أن يهدأ القلقون من روعهم وقلقهم من التغيير يحسن بهم أن يتذكروا أن مقود الحضارة ليس بيدنا نحن العرب والمسلمين - مع الأسف - وأن السيادة التقنية والصناعية والعسكرية والاقتصادية بيد غيرنا من الأمم المتغلبة المهيمنة ؛ كالأمريكان والأوربيين والصينيين واليابانيين والكوريين وغيرهم، وأننا لا نسهم في مسيرة الحضارة الإنسانية التي يشكل أغلب مكوناتها الأمم والشعوب الآنفة الذكر لا بالقليل ولا بالكثير؛ على الرغم مما نملكه من مقومات أخلاقية عالية يمثلها الإسلام، وعلى الرغم مما نملكه من مقومات بشرية فيها نماذج موهوبة وعالية التكوين العلمي، وما نملكه من مقومات اقتصادية ممتازة ؛ إلا أننا مع كل هذه الميزات لا زلنا نستعطي أمم الأرض المتفوقة شيئا من تفوقهم التقني، ونشحذهم شيئا من تقدمهم الطبي، ونتوسل إليهم شيئا من تفوقهم الإلكتروني، أو تفوقهم العسكري أو المدني بعامة!
ومعنى أننا لا نقدم شيئا يذكر يعني أنه ليست لدينا القدرة على احتلال موضع قدم في خارطة الحضارة يسمح لنا بمشاركة الأمم المتفوقة في تشكيل قيم وأخلاقيات الإنسانية ، نحن لا نملك قوة تفوق تتيح لنا إملاء شيء من شروطنا الأخلاقية لتكون ضمن حزمة القيم الإنسانية التي تتواضع عليها الأمم، ولأننا في موضع المستجدي وفي مكان المستعطي لا المعطي وفي خانة المستقبل لا المصدر نجد أنفسنا عاجزين ربما كل العجز أو بعضه في صد ما تنتجه الحضارة المتفوقة المتغلبة مما نعتقد أنه شر أو لا يتفق مع قيمنا ، وعلى الأخص في هذه المرحلة التي حطمت تقنية الاتصال والتواصل كل الحدود الجغرافية وتجاوزت مفهوم سيادة السلطات السياسية والدينية على الشعوب.
إنني حينما أسوق توصيف حالة العجز هذه وأدون هذا الاعتراف لا أعني أبدا الاستسلام أو اليأس أو الخنوع لما تفرضه الحضارة المتغلبة من سطوة وجبروت علمي واقتصادي وسياسي؛ لا، بل لأدعو إلى شيء من التواضع أمام التفوق العلمي العالمي ، ثم إلى شيء من الاعتراف بنجابة الأمم التي تفوقت ، ثم أيضا إلى ضرورة البحث عن خطة توافقية مع سطوة العقل المتفوق ، بحيث لا نجد أنفسنا في حالة ذوبان وتلاش كثلج صهرته شمس لاهبة ، ولا نقف متصلبين كصخور قاسية لا تتزح عن مكانها إلى أن تقتلعها الأعاصير .
إن من العقل ألا نكون عصا خيزان يابسة إن التفت انكسرت على الفور ؛ بل لنكن عصا خيزران لينة طيعة تحافظ على نفسها من الكسر وتعود إلى الاستقامة والانطلاق إلى الأمام حتى بعد أن تنحني للضرورة ، وحتى بعد أن تنهزم أو تخذل أو تمر بحالة ضعف وهوان
إننا أمة أراد الله لها سبحانه أن تبقى لتحمل رسالته الخالدة إلى البشرية، وإن إيماننا بحتمية وجودنا الأبدي لحمل الرسالة الخيرة يمنحنا قوة في العزيمة وصلابة في الموقف وأملا لا يمكن أن يموت أو يذبل في الصمود ومعاودة النهوض بعد الكبوة ؛ لكننا نتحدث الآن في هذا الظرف السياسي والحضاري الصعب لا عن أمة قادمة ولا عن دور حتمي سيأتي مع تبدل مواقع الحضارات كسنة من سنن الله في الكون؛ لا؛ بل نتحدث عن واقعنا المأساوي اليوم الذي يفرض علينا التوافق والتعايش والتعاطي مع العقل الحضاري المهيمن ، فليس من المنطق ولا من المعقول أن نقف في وجه الطوفان ونمنعه من أن يكتسحنا بأيدينا العارية ، ولا يمكن لنا أبدا أن نرفع أصواتنا عالية في فضاء الكون بأننا نريده أن يصاغ كما نتمنى ، أو أننا سنضع أمام العالم أبوابا موصدة عليها أقفال غليظة لا هم يأتون إلينا ولا نحن نذهب إليهم .
وعودا على بدء ؛ ما عاشه آباؤنا وأجدادنا من صدمات حضارية سنعيشه نحن وسيعيشه أبناؤنا من بعدنا ، وكما عجز الآباء عن سد الآفاق سنعجز نحن حتى عن سد نافذة صغيرة .
إن من يقف أمام الطوفان الحضاري الجارف وهو ضعيف سيقتلعه ولا يبالي ، ومن يعتقد أن العالم لن يؤثروا فيه ولن يتأثروا به واهم أيضا ؛ فها نحن نتنفس حضارتهم في كل لحظة ، وهاهم - مع الأسف - يتنفسون منا ما يشوه ويحقر ويصغر بنا أمام العالم من تفجير وقتل وإرهاب في ديارهم وفي ديارنا .
السعودية القادمة مختلفة ؛ لا في الاقتصاد والصناعة فحسب ؛ بل في كل وجوه النهضة اللازمة التي تفرضها شروط النهضة .
ومن الخير أن نخطط نحن الآن لما نريد ، لئلا يفرض علينا يوما ما لا نريد! .