د.عبد الرحمن الحبيب
مسؤول الرقابة ناقش المدير بحدة لعدم تواجد بضعة موظفين بداية الدوام. المدير حاول إقناعه أن عملهم ميداني خارج المقر.. المراقب لم يقتنع.. وقال بصرامة: هذا وقت تواجدهم هنا، لا أريد تفاهم بالمسألة.. وأخذت القصة شهوراً كي لا يخصم من رواتبهم..
حصل هذا قبل نحو ثلاثين عاماً.. الأطرف منه، آنذاك، مراقب آخر سأل عن عدم تواجد الموظف الفلاني، ضحكنا فيما بيننا، إذا كان الموظف يشكو من إسهال، وداوم في الحمام.. شرح له المدير بصوت خافت المسألة.. لكن المراقب الصميدع أصر على التأكد! ذهب ومعه المدير ومتطفلون آخرون إلى موقع الحدث.. الرجل المطلوب عندما فتح باب الحمام خارجاً ومنهكاً ارتعب حين رأى مشهد الواقفين أمام الباب متوقعاً أن ثمة كارثة حصلت. فما كان من المراقب إلا أن أشَّر بقلمه على الورقة أمام اسم الموظف ومضى أدراجه..
قبل سنوات جلست مع مسؤول حكومي كان جديداً على إدارة قطاع يضم مئات الموظفين، وذكر لي حيرته المريرة في توقيع نموذج تقييم الأداء الوظيفي.. يقول أغلب النماذج أو تقريباً كلها تأتي بتقدير ممتاز، وكثير منها بدرجة مئة من مئة، رغم أن النموذج يحوي مقاييس أداء متنوعة لكنها غير مفعلة..
ما الإشكال الذي يجمع بين هذه الأمثلة الثلاثة؟ غياب قياس مناسب للأداء.. قياس مؤسسي ونظامي ومعياري قابل للتحديد بدلاً من القياس المعتمد على الاجتهادات الفردية والانطباعية أو الاكتفاء بدفتر الحضور والانصراف الذي يساوي بين أداء جميع الموظفين نشيطهم وخاملهم، بينما من أهم عوامل تحسين الأداء هو تمييز الموظفين النشطين..
الواقع أنه منذ فترة بدأ الحديث عن مقاييس أداء جديدة؛ وفي السنة الأخيرة مع طرح برنامج التحول الوطني، ثم ما طرحته مؤخراً رؤية المملكة 2030، أخذت تتشكل ثقافة جديدة للعمل، وراجت مصطلحات مهمة، مثل: إستراتيجية، خطة، مكاشفة، مساءلة، حوكمة، مقاييس الأداء.. كل منها ينال حالياً مناقشات مفيدة.. وما يعني المقال هنا هو ثقافة الأداء حيث لا يزال بعض القطاعات الحكومية يعتمد في مقياسه للأداء على دفتر الحضور والانصراف..
إذا كان كثير منا يتهكم على هذا المقياس شبه الوحيد للأداء بالذهنية البيروقراطية السابقة، فإنه بطبيعة الحال لا يتم إنجاز العمل إلا بالتواجد، لكنه قد يكون عقيماً، فالأساس ليس التواجد بل الإنجاز. لذا فإن الأدبيات الإدارية تضع العمل المنجز (من ناحية الكم والجودة والوقت) أول مقاييس الأداء على مستوى الموظف الفرد، ثم تأتي بقية المقاييس مثل: درجة التعاون مع الزملاء، درجة الانتظام والانضباط في العمل، تنفيذ الأوامر، المبادرة في حل مشكلات العمل، الولاء للمؤسسة.. بترتيب يختلف باختلاف المؤسسة.
إنما المدير البيروقراطي قد يضع أهم أولوياته وتركيزه على دفتر الحضور والانصراف لسببين رئيسيين: الأول أن المراقب الذي يأتيه فجأة ليقيِّم عمل مؤسسته يكتب تقريره من خلال هذا الدفتر وتواجد الموظفين وليس من خلال أدائهم. والثاني أن ثمة تجارب غير مشجعة لإدارات حاولت الاستغناء عن هذا الدفتر فكانت النتيجة تسيب في العمل. هذان السببان قد يكونا نتيجة لثقافة الأداء في العمل التي تحتاج للتجديد عبر تبني معايير جديدة والتشديد عليها كي تتوافق مع رؤية المملكة 2030..
يُقصد بقياس الأداء جمع وتحليل المعلومات بخصوص أداء فرد أو جماعة أو منظمة أو جهاز، لمعرفة ما إذا كان الناتج يتماشى مع المفترض تحقيقه. هذا القياس يعتمد على مؤشرات الأداء التي تهدف لتقييم نجاح أي مؤسسة. وإذا كانت مؤشرات الأداء ليست صعبة على مستوى الموظف الفرد حسب المعايير المذكورة آنفا، فإنها على مستوى المؤسسة ليست سهلة خاصة في المؤسسات الحكومية.
المفترض أن التقييم يتم عبر قياس دوري مستمر لمدى نجاح المؤسسة في تحقيق أهدافها التنفيذية (والإستراتيجية على المدى الأبعد)، ويمكن أن يوضع له مقياس من واحد إلى عشرة، يوجز المؤشرات الرئيسية، إضافة للفرعية من معايير كمية ونوعية ومالية وتشغيلية ومدخلات ومخرجات وتحسين أداء..الخ.
ولأن هذا القياس الجديد بالنسبة لنا صعب من الناحية التطبيقية، فإن اختيار المؤشرات السليمة للأداء يعتمد على فهم جيد من قبل الجهة الرقابية لما هو محدد للمؤسسة الحكومية، وليس اختيار معايير ثابتة كالإيرادات والنفقات. على سبيل المثال مؤشرات الأداء الرئيسية للجهات الخدمية المجانية (التعليم، الصحة، البلدية) تختلف عنها للجهات الخدمية غير المجانية (الماء، الكهرباء، الاتصالات، المواصلات).. المدرسة قد تنظر لمعدل فشل طلابها بمثابة مؤشر أداء رئيسي، في حين أن القطاع التجاري قد ينظر لنسبة الدخل من عائد الزبائن باعتباره أهم مؤشر أداء.. كما أنه داخل كل قطاع فإن الأقسام الاستهلاكية تختلف عن تلك الإنتاجية..
هناك طريقة شاعت منذ التسعينات بالدول المتقدمة في اختيار مؤشرات الأداء الرئيسية عبر ما أطلق عليه «تقييم الأداء المتوازن» الذي يقيس أداء المؤسسة عبر عدة محاور مثل خدمة المستهدفين (المواطنين أو العملاء)، الإيرادات والإنفاق، فاعلية الأنظمة الداخلية، التنمية البشرية ونظم المعلومات.. الخ. هناك أيضاً ما أطلق عليه معيار «سمارت»، حيث المقياس له هدف خاص لكل عمل معين، وقابل للقياس، وقابل للتنفيذ، ومناسب لنجاح المؤسسة، ومرحلي تظهر نتائجه خلال فترة محددة.
في كل الأحوال فإن مؤشرات الأداء الرئيسية ينبغي أن ترتبط مع الأهداف، بحيث يمكن تقييم القياس على أساس تحقيق التوقعات من عدمه. إنما تنبغي الإشارة إلى أن هذه المؤشرات ليست حلاً مثالياً بلا ثغرات؛ فقد تواجه الإشراف الرقابي على مؤشرات الأداء الرئيسية صعوبة في التطبيق على المؤسسات الحكومية، ومكلفة على القطاع الخاص. كما أن بعض المؤشرات يصعب أو يستحيل قياسها مثل الروح المعنوية للموظفين. كذلك يمكن أن تكون مؤشرات الأداء الرئيسية فضفاضة وليس معياراً دقيقاً. وبعض المؤشرات الفرعية يمكن التلاعب بها حتى لو كانت رقمية مثل اعتماد القياس على عدد المعاملات التي ينجزها الموظف، أو عدد المخالفات التي يحررها رجل المرور..
إذا كنا بحاجة لبناء ثقافة اجتماعية جديدة تعلي من شان الأداء وقيم العمل، فإن أهم لبناتها هي وضع معايير جديدة للأداء قابلة للقياس والتطبيق، يُقيَّم من خلالها الموظف والمؤسسة.. وإذا أردنا نتائج مختلفة، فيجب علينا تغيير الطريقة التي نؤدي بها أعمالنا..