يوسف المحيميد
رغم كل هذه التحولات السريعة في ملامح الوزارات والهيئات والمؤسسات الحكومية، ومحاولة إعادة هيكلة هذه المؤسسات، لم تزل وزارة الخدمة المدنية بنظامها الحكومي العتيق، وبيروقراطية التوظيف من خلالها، تمثل عائقاً واضحاً في الأداء الحكومي، من حيث القدرة على الرقابة وقياس الأداء، وآليات التوظيف واستحداث الوظائف، وتصنيفها، ووصفها، وما إلى ذلك.
وبحثاً عن مرونة التوظيف والتدريب والتطوير، وسلم الرواتب، والتحرر من بيروقراطية الخدمة المدنية، اعتمدت الدولة على إنشاء الهيئات العامة، التي ثبت أنها أكثر عملية وسهولة في الإجراءات، مما انعكس على الأداء والإنجاز، وأصبحت أكثر جاذبية للشباب الراغبين بمستقبل وظيفي أفضل مما في الوزارات التابعة لنظام الخدمة المدنية.
ولعل من أهم الهيئات الجديدة، التي صدر أمر ملكي بإنشائها مؤخرًا، هيئة الثقافة، بعد أن عانت الثقافة لسنوات طويلة من التهميش، حتى أصبحت جزءاً من وزارة الإعلام، لكنها مع ذلك بقيت منسية، في ظل تركيز الوزارة على الجانب الإعلامي، الداخلي والخارجي.
واليوم لا ينتظر المثقف فحسب، ما ستقوم به هذه الهيئة، بل المواطن أيضًا، خاصة أن هذه الهيئة، وهيئة الترفيه، كانتا من ملامح التغيير الذي ينتظره المواطن لسنوات، وكانت النظرة التقليدية تستبعد هذا الترفيه، وترفض الثقافة، مما جعل خيارات الحياة الطبيعية محدودة في مجتمعنا، الأمر الذي يضطر معظم أفراده إلى السفر الجماعي نحو دول الجوار، في معظم الإجازات القصيرة والطويلة، وكأنما نهاجر بأموال السياحة والترفيه للخارج، لنحرم اقتصادنا المحلي من إيرادات هو أحق بها من غيره من اقتصادات دول الجوار.
ماذا يمكن أن يتحقق للمواطن من هيئة للثقافة، خاصة إذا نجحت إدارتها في فهم المسؤوليات المناطة بها؟ أعتقد أنه سيتحقق الكثير، سواء من حيث رفع مستوى وعي المجتمع، وإشاعة التسامح بينهم، واحترام حقوق الآخر، أو من حيث تخفيف التطرّف في الآراء، والتشدد في المواقف، حيث الثقافة تهذب الوعي والسلوك والتعامل، وهذه جزء رئيس من رؤية المملكة 2030، التي من شأنها أن تنقل المجتمع السعودي إلى مستوى اجتماعي جديد يتلاءم مع الأبعاد الاقتصادية وتنوعها في الرؤية.
قد تحقق هذه الهيئة تطوراً لافتاً في مختلف مجالات الثقافة، من حيث العناية بالمكتبات العامة وتطويرها، والتركيز على ثقافة الطفل لبناء جيل جديد مثقف وواع، ودعم القراءة والتشجيع عليها بصناعة نشر محلي متطور، وتأسيس قطاع مسرحي نشط وفاعل، يصبح جزءاً يومياً من حياة الإنسان، وقطاع لصناعة السينما، ليس كجانب ترفيهي فحسب، وإنما كداعم اقتصادي يسهم في تنويع الاقتصاد، وتكريس الفنون البصرية، التشكيلية والفوتوغرافية، ومنح الموسيقى بشكلها الثقافي الأرقى فرصة كافية، كما في دور الأوبرا في مختلف الدول.
الثقافة وحدها، بمنحها المزيد من الضوء، لا تقوم لثقيف الإنسان فحسب، وإنما ترتقي بذائقته، وترمم وعيه، وتهذب سلوكه، وهذا ما يحتاجه المجتمع، تزامناً مع رؤية طموحة تستهدف الإنسان أولا، وتراهن على الموارد البشرية، التي ستقود هذه البلاد نحو مزيد من الأمل.