د. محمد البشر
نعود لإلقاء الضوء على كتاب «كبسولات نفطية رحلة الرعاية الصحية في دول الخليج» للدكتور نايف بن عبدالله بن دايل، فقد أثبتت الإحصاءات أن نسبة المدخنين العالمية لدى الجامعيين نحو 10 في المائة بينما تقفز هذه النسبة لتصل إلى 35 في المائة من فئة غير الحاملين لشهادة الثانوية العامة، والحقيقة أن هذا الأمر لا يقتصر على التدخين فحسب، بل إن زيادة أربع سنوات من التعليم قللت من خطر الإصابة بالقلب 31 في المائة والسكري 7 في المائة، واحتمال عدم الحضور للعمل بنسبة 5 في المائة، وعلى العكس فإن الزيادة في كتلة الجسم ومحيط الوسط كانت أحد عوامل التنبؤ بقلة المعدل التراكمي للدارسين في الجامعات.
إن الوعي والإدراك يعدان أهم السمات الموجهة للسلوك، ومع غياب المعرفة تبقى النفس حبيسة المغامرات والتقاليد حتى وإن كانت خاطئة.
لعل من المناسب الإيماء إلى اليابان والتحولات التي حدثت هناك، ففي منتصف القرن العشرين، تحولت اليابان إلى أنقاض جراء هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، التي أسفرت بنهايتها عن توقيع مذكرة الاستسلام لدول التحالف والولايات المتحدة الأمريكية. خرجت اليابان من الحرب ولم تزل روحها تعانق أحلام معاودة ازدهارها من جديد. فارتأت أن في الصناعة طريق الخلاص وإمكانية غزو العالم من دون سلاح، وإنما بجودة منتجاتها. فلم تدخر أي جهد للاستفادة من كافة الطرق والمدارس التي في وسعها تطوير خطوط الإنتاج وتحسين الأداء المستمرين.
لم يكن وليام إدوارد ديمنج يعلم أن عمله في وزارة الزراعة الأمريكية (قسم الإحصاء) سيهديه إلى تأسيس مدرسة عالمية في تحسين ومتابعة الجودة. فبعد إنهائه بكالوريوس الهندسة ودرجة الماجستير والدكتوراه في الفيزياء والرياضيات من جامعة يال في عام 1928م تعاطى البروفيسور ديمنج عن كثب مع أستاذه ورئيس عمله الجديد والتر شوارتز، حيث تأثر به وضمّن أفكاره في صفحات كتابه.
وجد ديمنج أن تطبيقات شوارتز الإحصائية ملهمة. فلقد كانت مبنية على التحكم بانحراف سير الإجراءات وتقلب معطياتها، إضافة إلى بعض الأدوات المساعدة على ذلك. وهنالك فكر باستخدام ذات المبادئ، ليس لضبط العمل الإحصائي فحسب، بل لمختلف التطبيقات الصناعية وخطوط الإنتاج.
أثناء احتلال قوى التحالف لليابان تم الاستعانة بديمنج في التحضير للقيام بتعداد عام 1951م. ولدى وصوله إلى اليابان، قام بتعليم أسس التحكم الإحصائية وأدواتها كرسم سشوارتز البياني، مع إلقاء بعض الدروس إضافة لمهمته الاستشارية الرئيسة. غير أن جمعية المهندسين اليابانيين قامت بدعوته لمقابلة قادة رجال الأعمال اليابانيين، ليس للحديث عن مبادئه الإحصائية، وإنما لتقديم نظرياته في الجودة، التي كانت تعتمد على ضمان استقامة العمليات من دون تغييرات طارئة. وبعد الاستقبال والنجاح البارز لديمنج في اليابان، قام بالتدريس في جامعة نيويورك وتلقى عديدا من الجوائز، كان آخرها ميدالية تقدير من الرئيس ريجان.
يؤمن ديمنج بأن مدى تحكم الموظف في عناصر متغيرات العمل هو أساس جودة أدائه ومحاسبته. إِذ لا يتوقع من موظف خامل أن يقوم بتصحيح نظام غير فعال تم سنه من قبل رؤسائه. فنظام الحوافز والتشجيع أحيانًا قد يكون مضللاً ولا يرتبط بأداء الموظف. فعندما تقوم شركة تكييف هواء بمكافأة مديرها لارتفاع مبيعاتها في فصل الصيف، فالأرجح أن ذلك عائد لاختلاف الطقس وليس لاجتهاد المدير.
ومن هنا تكمن قناعة ديمنج بضرورة عدم مقارنة الموظفين، وإنما مشاركة نجاح المنظمة مع الجميع. فتقليد موظف الشهر كما يرى، إنما هو دورة تكريم لا تخلو من الحظ، خصوصًا حينما لا يتحكم الموظف فعليًا بمخرجات أدائه كاملة. كما أنه يرى أهمية تشارك الرؤية ومشاركة العمل. مع السماح لأي موظف أن يسهم بتصحيح أي إجراء إذا ما أثر على مخرجات العمل.
وهذه العملية هي دورة مستمرة أكثر ما هي عمل أوحد لتحسن يتيم. فغالبًا ما تنتج عملية التطوير بتجلي إجراءات أخرى تستدعي التدخل حيث يبرزها النظام تلقائيًا كعنصر ضعيف بحسب نظرية الحلقة الأضعف. وهذا ما دعا ديمنج إلى تطوير ما عرف بدورة التطوير المستمر بعناصرها الأربعة (التخطيط، التنفيذ، المراجعة، التطوير) أو ما يعرف بدورة PDSA.