د. محمد البشر
عندما يتحدث الاقتصاديون عن مرحلة ما بعد النفط، فهذا لا يعني اختفاء النفط من وجه الأرض، أو الانصراف عنه انصرافاً كاملاً، لكن الأغلب قد يرى الاستغناء عن النفظ مستحيلاً، غير أن الاعتماد عليه كمصدر أساس للطاقة سيكون أقل بكثير مما هو سائد الآن، إذا استطاع العلماء التوسع في تطوير البدائل المستدامة والمعروفة اليوم، مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وتدفق المياه وغيرها من أنواع الطاقة، أو أمكن للباحثين العثور على بديل آخر أكثر كفاءة، وأقل تكلفة، وأكثر صداقة للبيئة، بل صديق حميم للبيئة، ومن مصدر دائم لا ينضب كما هي حال الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وغيرها.
إنفاق باريس للحد من الاعتماد على الطاقة الكربونية كالفحم والنفط، سيكون عاملاً دولياً ضاغطاً على الحد من الاعتماد عليه.
والنفط ليس للطاقة فحسب، وإنما هو يدخل في الكثير من الصناعات الهامة والسائدة في عالم اليوم مثل البلاستيك وبعض المنتجات الطبية وغيرها. ولن يستغني عنه الإنسان بأي حال، مهما زعم الزاعمون، وبالغوا في أثره السيئ على البيئة، وكأنه العنصر المخرّب الوحيد، متناسين العناصر الأخرى التي ربما تكون أكثر أثراً في النظام البيئي من هذا النفط المظلوم، كما هي حال الأمونيا المنبعثة من روث الحيوانات، لا سيما مزارع الأبقار المنتشرة في سائر المعمورة.
الاستغناء عن النفط كلياً ليس مستهدفاً في كثير من الدول المنتجة له والمعتمدة عليه، لكن البحث عن بدائل استثمارية أخرى رائدة له أصبح مطلباً هاماً، وهي كثيرة ومتاحة على المستوى العالمي والمحلي في كل دولة من الدول، وفي كل تجمع اقتصادي أو سياسي معين.
البدائل الاستثمارية المتاحة في عالم اليوم كثيرة ومتنوعة ومتباينة، فهناك أسواق المال العالمية والمحلية، وهناك الاستثمارات المباشرة في الداخل، أو في دول أخرى، تمتاز بميزة نسبية، مثل توفر العمالة الكفؤة والرخيصة والبيئة الطبيعية المناسبة، كما هي حال الزراعة وحتى الموقع الجغرافي للدول المستهدفة بالتسويق. وهناك الاستثمارات المشتركة مع دول أو شركات عالمية عملاقة، تحقق عوائد مجزية، وتعمل على إيجاد مخترعات جديدة قد تضاعف من رأس المال والعوائد المرجوة من الاستثمار.
الاستثمار المحلي عنصر أساسي إذا كان ذلك يتناسب مع البيئة الطبيعية كما هي الحال في بعض الصناعات المعتمدة على النفط، فبالإضافة إلى كونه جالباً للعوائد، فهو يوفر الوظائف اللازمة للمواطن لتحقق له عائداً يحصل من خلاله على قوت يومه.نحن جزء من هذا العالم الفسيح المتسارع الخطى في مجال التقدم والاختراعات، والقادم سيكون أكثر غرابة لهذا الجيل بعد أن كان الكثير من المخترعات غريبة على جيل حالي وسابق، فقد استغرب الناس السيارة والطائرة، وبعدها البرقية، ثم الفاكس، والتلكس، والهاتف الثابت صاحب البدالة المركزية طيبة الذكر، وبعدها التلفون الثابت المباشر، وبعد أن طرح في الأسواق الهاتف النقال كان الشباب من الجنسين في بادئ الأمر يتباهون بالحصول عليه، ثم أصبح جزءاً من حياتنا مع ما فيه من فوائد ومضار.
اليوم أصبح الاستثمار في غير النفط يعني مسابقة الزمن، والركوب على آخر قطار للسير مع العالم نحو كل جديد، وهذا الجديد الذي يحل عادة ما يرمي وراء ظهره مخترعاً سابقاً، وشواهد ذلك كثيرة لا تُعد ولا تُحصى.
لقد كنا في ما مضى نسمع بأن إيجاد بدائل عن النفط وعدم الاعتماد عليه لا بد منه، وبعد ذلك رددنا هذه الجملة على طلابنا، أو في المحافل التي يُتاح لنا الحديث فيها، واستمرت الحال كما هي.
اليوم نلمس بأيدينا قولاً وفعلاً ذلك التحول الإستراتيجي الهام الذي طالما سمعناه ودرّسناه، وقلناه، وفق الله من استطاع أن يضعه حقيقة ماثلة أمامنا، في يوم نحن في أمسّ الحاجة إليه.