عبدالعزيز السماري
يتكرر كثيراً على وسائل الإعلام مصطلح الوطن والوطنية في نماذج مختلفة، وقد ساهمت تلك الوسائل في تحويل مفهوم الوطن بمرور الزمن إلى أنشودة نرددها كل صباح وقبل المباريات وفي المناسبات، على أنه حالة من العشق والمحبة والولاء الخالص، ويحاول آخرون التقليل من أهميته، و تقديم مفهوم الأمة التي تحكمها الفرقة الناجية على أنها طوبى المنشودة في الحياة الدنيا، بينما يمثل الوطن في أدبياتهم الوثن الذي حرم الله عز وجل إشراكه في الولاء والمحبة والإيمان، وقد يختلف مفهوم النجاة من طائفة أخرى.
حاولت مراراً إيجاد تخريج عقلاني ومقنع لما تم ترويجه أعلاه عن الوطن، وفشلت، وذلك لإيماني الشخصي أن الوطن هو حالة تختلف كثيراً عن حالات الحب والعشق والولاء أوالإيمان، فهو أقرب حسب رأيي لتلك الحاجات الملحة في حياة الإنسان، فالإنسان بلا وطن يصبح مشرداً في هذه الحياة، مهما اختلفت درجة التشرد، وقد يضطر للتنازل عن بعض من هويته أو ثروته أو كرامته أو كبريائه في رحلة البحث عن وطن آخر.
الحاجة إلى الوطن أكبر من عواطف المحبة ونشوة الأناشيد وطوباوية الأمة وغيرها من الأطروحات التي تجعل من الوطن شيئاً هلامياً غير محسوس، فالوطن لمواطنيه بمثابة البيت الدافئ في ليلة الشتاء القارس، والمكان البارد في لهيب الصيف الحار، وهو الخلية التي في حالة عمل مستمر من أجل مهمة توفير الأمن والعمل والعيش قدر الإمكان لمختلف أعضائها.
جميع المواطنين وبمختلف الفئات المكونة لهذا الوطن تشترك في نفس القدر من الحاجة إليه، ولا يوجد أياً كان أكبر من تلك الحاجة، ومن خلال هذا المبدأ قد يتحقق قدر كبير من العقلانية في فهم فلسفة الحاجة إلى الوطن، ويخطئ كثيراً من يعتقد أنه بثروته الضخمة أو جاهه الرفيع أو منصبه أو أفكاره أكبر من تلك الحاجة الملحة إلى الوطن.
قد نختلف كثيراً في تقديم تعريف الوطن وماهيته، وهل هو تاريخ أو انتماء أم عشق أبدي، لكن نتفق أننا جميعاً نصبح في حالة ضياع بدون مأوى أو وطن، وربما تتحول حياتنا إلى جحيم إذا قررنا المضي بعيدا عنه، وسيظل السؤال الأهم كيف نحتاج إليه، وهل الحاجة تعني الانطواء داخله، وانتظار رغد العيش، أم هي المشاركة في المحافظة على ثرواته وأمنه.
من خلال مبدأ الضرورة الملحة للوطن، علينا أن لا نفرط في ثرواته وأن نحافظ عليها، وأن نبذل الجهد لحث المواطنين على المشاركة في إثرائه ودفعه إلى الأمام، وأن تكون مصالح الوطن مقدمة على أي مصالح فئوية أو أقلية، وأن نكون أعضاء فعالين في المحافظة عليه، وأن ندرك قبل أي شيء آخر أنه حقوق وواجبات، فالمواطن يقدم الواجبات الوطنية في العمل والمحافظة على الأمن والدفاع عن حدوده مقابل توفير الحقوق المشروعة له.
قاتل الله السياسة فقد أفرطت في تمزيق بعض الأوطان العربية، والسياسة التي أعنيها تلك التي تفننت ثقافة العرب في تشويه صورتها، لذلك أجدني أقف بعيداً عن مصطلح فصل السياسة عن الوطن، فالسياسة التي لا تضع الوطن وحاجاته ومصالح مواطنيه نصب عينيها تصبح مثل المعول الهدام في كيان الوطن.
خلاصة الأمر أن الحاجة إليه ليست طرحاً أيدولوجياً أو علاقة رومانسية أو حالة من العبودية، بل رؤية عقلانية مصدرها المصالح المشتركة والحاجات الملحة بين فئاته، من أجل حاضر مستقر ومستقبل زاهر، ولو أدرك فرقاء الأوطان العربية التي تشتعل فيها الحروب الأهلية تلك الرؤية مبكراً، لما تحولت ميادين أوطانهم وحقوله إلى حرائق مشتعلة، ولما تشرد مواطنوه في شتى بقاع الأرض..، حمى الله الوطن من الأهواء والفتن.. اللهم آمين.