د.عبدالله الغذامي
كنت أرأس قسم اللغة العربية في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة (1980) ويوما وعند دنو نهاية الدوام جاءني عميد الكلية فرحا باشا ومهنئا لي ولقسمي بأستاذ عراقي متخصص ومتعمق في اللغة العربية حتى إنه أطلع العميد على كتيب له يرصد فيه 180 خطأ لغويا على طه حسين في كتابه (الأيام) وكانت هذه كافية لاندهاش الدكتور العميد وفرحته بهذه العبقرية الفذة التي ستضاف لقسمنا، ولكنه لم يجد مني غير الرد البارد والساخر معا حيث قلت له : عساك تركته ينصرف..!! ومع أنه ارتاب من لغتي وعلامات وجهي إلا أنه تماسك قليلا ليقول لي : سأحيل إليك أوراقه صباح الغد بحول الله، وقبل أن يدير ظهره للانصراف بما إنه وإني مرهقان في نهاية الدوام وبطوننا تشد علينا لنتحرك ونغلق المكاتب، لكني حسمت الأمر مع العميد وهو صديق عزيز تعود على جفاف ردودي ولذا قلت له سأحضر أنا إليك غدا وأكتب على خطابه جملة واحدة : لا مكان عندي لمثله.
وهنا قرر العميد الجلوس بجانب مكتبي وقال : أنت صاحب الشأن، لكني قل لي السبب، وصاحبنا العميد متخصص في التاريخ وهو باحث قدير، وإن ترك البحث مبكرا وانشغل بالإدارة، ولقد شرحت له أن هذا العراقي اللغوي لو حضر عندي فسيخلف لنا جيلا من المعقدين وضربت له أمثلة من بحث كان العميد نفسه قد نشره قريبا وعندي في المكتب نسخة منه وقرأت عليه جملا من بحثه وقلت له سأعرض عليك تقرير المصحح اللغوي لمجلة الكلية وما فيه من اعتراضات على صيغ التعبير، ولم يكن العميد يعلم عن التقرير لأني أنا صاحب القرار مع تلك التقارير.. وكم هال العميد ما رأى من اعتراضات لغوية لم يستطع أن يرى لها وجها، وهنا شرحت له كيف أني تجاهلت تلك الاعتراضات وأمرت بنشر البحث في مجلة الكلية دون التوقف عندها وكشفت له عما يفعله معنا المصحح وما نفعله معه، فهو يجري قلمه الأحمر ونحن نقلب الأحمر لأخضر، وهنا اقتنع العميد أن صاحبنا العراقي لو جاء عندنا لعقد أذهان تلاميذنا وحولهم إلى مجرد مصححين يشطب الناس أحمرهم بأخضر يلغي العنت اللغوي، ويبقى طه حسين بلسان عربي فصيح دون أن يقطع لسانه معقد لغوي لم ينتج للثقافة العربية شيئا سوى أن يشوه ما هو جميل وإبداعي.