د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
اعتدتُ أسبوعياً أن أزور أحد الأصحاب (السينمائيين) المغرمين بمتابعة أهم وأبرز وأحدث ما تنتجه السينما العالمية من (أفلام) بمختلف أنواعها وأزمانها وجنسياتها، لينتقي لنا واحداً منها وفقاً لمعايير محددة سلفاً، وبمجرَّد انتهاء العرض يبدأ حوارٌ نناقش فيه جوانب الجودة والرداءة فيه، بدءاً من فكرة القصة، ومروراً بالشخصيات وطريقة التمثيل ومدى براعة تقمُّص الشخصيات وإقناعها، غير مغفلين الحوار وطريقة تصاعد الأحداث والحل والعقدة، وبما أنَّ (الفيلم) فنٌّ بصري بالدرجة الأولى فلا بُدَّ من تقييم للإخراج والمؤثرات البصرية والموسيقية المصاحبة للمشاهد.
وفي إحدى الليالي جاد علينا الوقت ليسمح لنا بمشاهدة (فلمين) على غير العادة، ومن المصادفات أنه على الرغم من اختلافهما في أمورٍ كثيرة، إلا أنهما اتفقا في أمرين لا تخطئهما البديهة، الأول أنَّ كليهما مقتبس عن قصة حقيقية، الثاني أنهما يصوِّران عملية إنقاذٍ بطولية قام بها بطل القصة بدافع وطني أو إنساني.
أما الفيلم الأول فكان بعنوان (airlift) ويحكي قصة أكبر إجلاء في التاريخ، حيث قام أحد المسؤولين الهنود بإجلاء أكثر من 170 ألفاً من الهنود الذين كانوا يعملون في الكويت حين اقتحمت القوات العراقية البلاد عام 1990م، وذلك بعد أحداث مثيرة ملأى بالمتاعب، واحتاجت هذه العملية قرابة 450 رحلة شاركت في هذه الإجلاء، أما الفيلم الثاني فكان بعنوان (the finest hours)، ويحكي قصة إنقاذ 33 رجلاً انشطرت ناقلتهم النفطية عام 1952م، وقد عُدَّ هذا الإنقاذ استثنائياً لأنه تم من خلال قاربٍ صغيرٍ لخفر السواحل وسط أجواء قاسية جداً، حيث العواصف القوية، والبرودة الشديدة، والضباب الكثيف، والأمواج العاتية.
ما لفت نظري في هاتين القصتين وغيرهما حرص صناَّع الأفلام على توثيق مثل هذه القصص التي تكشف عن بطولية بعض الشخصيات التي قامت بأعمال تستحق الإشادة، وجميلٌ أن تشارك الأفلام السينمائية في تخليد هذه الأحداث؛ رغبةً في تكريم وتشريف كلِّ من قام بعملٍ بطوليٍّ تجاه بلاده أو الإنسانية بصفةٍ عامة، ثم إنَّ مثل هذه الأفلام - وهذا هو الأهم - تسهم في تعريف الأجيال بهذه الأعمال، وتطلعهم على تفاصيل تلك الجهود، بأسلوبٍ لا تنقصه المتعة، وطريقةٍ بديعةٍ تجعل تلك الحوادث خالدةً في الذاكرة، وهي الطريقة الأنجع لحفظ هذه القصص وتخليدها والتعريف بها، حيث الجمهور الغفير، والأسلوب المتفرد في العرض، والعالمية في الوصول، والسرعة في الانتشار.
أقول هذا وأنا أفكر في وطني الحبيب، وما مرَّ به من أحداث كثيرة وتحولات عديدة أرى أنه من الضروري أن تُوثَّق بمثل هذه الطريقة السينمائية، وحين أقول: عن طريق (فيلمٍ سينمائي)، أستبعد (البرامج الوثائقية) التي يكون عليها الإقبال أقل، وينقصها كثير من الأمور التي تجعلها ممتعة جاذبة، فعلى سبيل المثال يمكن عمل فيلمٍ سينمائيٍّ عن فتح الملك عبد العزيز للرياض وتأسيسه للدولة السعودية، كما يمكن إنتاج أفلامٍ أخرى عن كلِّ ملكٍ من ملوك وطننا الغالي والجهود التي بذلوها في استقرار الدولة ورفاهية المواطن، ثم أيضاً هناك أحداثٌ مشهورةٌ وغير مشهورة يمكن للمخرجين المحليين الاستفادة منها في إنتاج فيلمٍ يوثقها، كحادثة (جهيمان)، ومشاركة الدولة في حرب الخليج، ومعاناتها من الإرهاب، وانهيار سوق الأسهم، وعاصفة الحزم، وغيرها.
ثم هناك أيضاً بعض الحوادث الاجتماعية والتحولات التي يمكن إنتاجها في فيلمٍ سينمائي يوثِّقها ويعرِّف الأجيال من بعدنا بها، كدخول الأطباق الفضائية والجوالات والإنترنت إلى المملكة والتحولات والتغيرات التي صاحبتها وموقف المجتمع منها وكيف تقبلوها، كما يمكن أيضاً الاستفادة من بعض الكوارث التي قدرها الله على الوطن كالغرق الذي تعرضت له مدينة جدة قبل سنوات قليلة، وغيرها من الأحداث العامة والخاصة التي أجزم أنَّ المهتمين لو بحثوا فيها وتقصوا عنها وأولوها العناية والاهتمام لخرجوا بكثيرٍ من القصص التي تصلح لأن تكون أعمالاً سينمائية في غاية الروعة، إذا أحسن المسؤول كتابة حواراتها، وأتقن إخراجها وتسلسل أحداثها، واختار لها المناسب من الممثلين.
أقول هذا وأنا أعي تماماً أنَّ بعض المسلسلات التلفزيونية قد أدَّت شيئاً من هذا، غير أنَّ الإشكال فيها اقتصارها على جانبٍ واحدٍ وهو الاجتماعي مغفلة بقية الجوانب، ثم إنَّ أغلبها يعرض مثل هذه الأحداث بأسلوبٍ كوميدي ساخرٍ فيه نوعٌ من التهريج في كثير من الأحيان، وفي حلقةٍ لا تتجاوز 20 دقيقة، ثم هي بعد ذلك كله تبقى محليةً محدودة، أما ما أطلبه في هذه المساحة فهو الاستفادة من كل الأحداث والتحولات التي شهدتها الدولة بمختلف أنواعها وجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الرياضية، وابتكار طريقةٍ سينمائيةٍ فريدةٍ لتوثيق مثل هذه الأحداث المهمة، قبل أن يأتي غيرنا فيفعل ذلك، متلاعباً بالأحداث، وباعثاً من خلال ذلك برسائل تخدم مصالحه وتحقق أهدافه.