أ.د عبدالله بن أحمد الفيفي
كانت الكتابة المعروفة في عصر (موسى، عليه السلام)- خلال القرن 13 و14ق.م- لا تعدو الكتابة التصويريَّة الهيروغليفيَّة، أو الكتابة المقطعيَّة المسماريَّة، أو الكتابة الحروفيَّة الأبجديَّة الفينيقيَّة. وبناءً عليه يتبدَّى جليًّا، حين نتأمَّل في تاريخ كتابة «التوراة»، عوارُ أيِّ فرضيَّة لتاريخ (بني إسرائيل) في الجزيرة العربيَّة؛ لأنه إنْ كانت من كتابة في (بني إسرائيل)، فبالكتابة التصويريَّة المِصْريَّة، كما بيّنا في المقال السابق. بل إنه ما دامت لموسى كتابة وكتاب، فإن هذا يقتضي إعادة النظر في لغته نفسها؛ لأن العِبريَّة لم تكن لغة كتابة في عصره، ولا حتى السريانيَّة. فضلًا عن أن تكون تلك العِبريَّة أو السريانيَّة قد عاشت في (جزيرة العرب)، كما يفترض صاحب كتاب «العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود». وحتى لو سلّمنا بالمتواتر تاريخيًّا حول تاريخ بني إسرائيل في (مِصْر) وبلاد (الشام)، فإن من الغفلة المطبقة تصوُّر أن إنسانًا وُلِدَ في مِصْر، وعاش آباؤه من قَبل أجيالًا في مِصْر، وتربَّى في قصر فِرعون، وشبَّ وشابَ بين المِصْريّين، ثمَّ نتخيَّل أن لغته ظلّت العِبرانيَّة أو السريانيَّة!(1) بل هو بالضرورة مِصْريّ الثقافة واللسان والكتابة.
إن منطق التاريخ قائل، إذن: إن اللغة العِبْرانيَّة إنما كانت لُغة الرُّعاة الذين عَبَروا الفُرات من (العراق) إلى (الشام). وإن تلك اللغة قد جاورت الكنعانيَّة، لغة أبناء (فلسطين) الأصليِّين، حين أقام العبرانيُّون بين ظَهرانيهم، وافدين، ثمَّ مستجيرين، ثمَّ محتلِّين. وبمنطق الحضارات واللغات، فلا بُدَّ أن لُغة الغالب كانت هي السائدة. وأن بقاء العِبرانيَّة كان في ظِلّ الكنعانيَّة، ثمَّ إلى جوارها بعد أن أصبح لـ(بني إسرائيل) شأن. ثمَّ لمَّا أن هبط بنو إسرائيل إلى مِصْر، ونشأت أجيال وأجيال هناك، لا بُدَّ أن لُغة الغالب كانت هي السائدة كذلك، وأن بقاء العِبرانيَّة- إنْ كانت قد بقيت لها باقيَّة لعاملٍ دِينيٍّ موروث- كان في ظِلّ اللغة المِصْريَّة، إلى أن خرج بنو إسرائيل ومَن تَبِعهم من أرض مِصْر. على أنه من المتصوَّر أن بني إسرائيل أحيَوا لُغة آبائهم العِبرانيَّة بعد عودتهم لاستيطان فِلسطين. ومن المتصوَّر كذلك أنها قد أصبحت لغةً ضعيفة بالية، بعد ذلك التاريخ الطويل من التشرذم والهجرات بين الأقطار والشعوب واللغات، وصار حافظها الوحيد من الزوال هو عامل التراث الدِّيني. وهذا بنقيض ما يذهب إليه، مثلًا، (أبو ذؤيب إسرائيل ولفنسون)- أستاذ الساميّات بدار العلوم المصريَّة في بدايات القرن العشرين- الذي يلعب لُعبة سياسيَّة مقابلة للُعبة مؤلّف «العرب والساميّون...»، وذلك في رسالته للدكتوراه التي أعدّها بإشراف (طه حسين) في الجامعة المِصْريَّة، 1927، بعنوان «تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهليَّة وصدر الإسلام»(2)؛ إذ كما نحَّى (د. أحمد داوود) العِبريَّة جانبًا ليُحِلّ محلّها السريانيَّة في ديار الشام والعراق، بل في الجزيرة العربيَّة أيضًا، ذهب ولفنسون إلى أن العِبريَّة كانت «شائعة» قبل نشوء بني إسرائيل، فكانت لغة فلسطين، و(طُور سيناء)، و(شرق الأردن)، و(أطراف الحجاز)، قبل أن تزاحمها الآراميَّة. والحقّ أن هذه «شائعة» لغويَّة بالفعل، ولأسباب لا تخفَى؛ لأن مِن لازِم المعنى للقول بشُيوع لُغةٍ القولَ بالحقّ التاريخي لناطقيها في الأرض التي شاعت فيها، وهو المراد بثّه وتثبيته.
وهكذا تتبدَّى الدوافع السياسيَّة، معلَنةً أو مضمَرة، وراء كثيرٍ ممَّا تُدبَّج به الكُتب باسم العِلْم والتاريخ، هنا وهناك. وذلك لنقل الأرض والصراع، أو لتوسيعهما، أو للتبرُّؤ من التَّبِعات التاريخيَّة والأخلاقيَّة، وقذفها إلى جهة أخرى. ولسنا، في المقابل، ننطلق هنا من منطلقات دفاعيَّة، وإنما غايتنا أن نناقش مناهج الاستدلال، مطالبِين بالبراهين العِلْميَّة، التي يُعتدّ بها، والتي تتكافأ مع تلك الدعاوَى الكبرى لقلب التاريخ والجغرافيا رأسًا على عقب. فإذا تماثل هؤلاء المؤلِّفون- من أتباع المدرسة «الكماليَّة الصليبيَّة»- إلى الشفاء من إديولوجيَّاتهم وقُطريَّاتهم، وطرحوا طرحًا عِلْميًّا يُثبت ما يزعمون، فأهلًا وسهلًا؛ فالتاريخ حقٌّ، متى صحّ، ولا سبيل إلى تغييره.
ولقد رأينا في مقالاتنا السابقة تهافت الدليل التاريخي الذي لم يجد (داوود) في جعبته أدمغَ منه ليُثبت دعواه الكبرى، من أجل دحض الأكاذيب الصهيونيَّة العالميَّة في فلسطين! ولكن أ لئن أراد أن يدحض ما يسمِّيه التزوير الصهيوني، يبيح لنفسه اتّخاذ الطريق نفسه؟ فيدحض تزويرًا بشِبهه؟ إذ ما كان يقتضي إنكارُه تسمية بلاد الشام بأرض كنعان البحثَ عن تلك الأرض في موطنٍ بديل وبلا دليل، هو (بلاد غامد)، ليس إلّا ليُبعدها ع ن فلسطين، ثم لا برهان له على ما يزعم إلّا الظن! وقد رأينا ظنون (الصليبي) من قبل تهوي به جنوبًا إلى (عسير)، ثمَّ جاءنا داوود لينقلها شمالًا إلى سراة غامد! كأنما الهدف فقط إبعاد بني إسرائيل وتاريخهم عن بلاد الشام بأيّ ثمن، والدفاع عمَّا يسميِّه (داوود) «سوريا الطبيعيَّة»، التي تشمل لديه بلدان الشام والعراق وغيرهما. فلا لهذا دليل يتكافأ مع دعواه ولا لذاك، وإلَّا فلو حضر الدليل، لانتهى تخبطهما جنوبًا وشمالًا.
إن منطق التاريخ أبدًا يُسقِط أهواء المؤرِّخين!
** ** **
(1) انظر: ظاظا، حسن، (1971)، الفِكر الدِّيني الإسرائيلي: أطواره ومذاهبه، (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربيَّة)، 16- 17.
(2) انظر: (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1927)، ز، ح.
(عضو مجلس الشورى- الأستاذ بجامعة الملك سعود)